للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الصنف الثالث: عُمار الدنيا والآخرة

النوع الثالث من أنواع البشر: نوع جاء بعد هؤلاء مباشرة في سورة البقرة: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة:٢٠١ - ٢٠٢]، هذا النوع من البشر يعمرون الدنيا، لكن يضعونها في أكفهم، ويعمرون الآخرة ويضعونها في قلوبهم، ويعلمون علم اليقين أن الدنيا جسر ومعبر للحياة الآخرة، ويعلمون أن الإنسان لا يمكن أن تستقيم أموره، وأن الكون لا يمكن أن يستمر وجوده إلا بعمارة هذه الحياة الدنيا، ولذلك فإنهم يعمرون الدنيا والآخرة، لكنهم يعمرون الدنيا لهدف محدود للدنيا نفسها، ويعمرون الآخرة من أجل رضا الله عز وجل، ولذلك فإنهم إذا دعوا الله عز وجل يسألونه الدنيا والآخرة: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:٢٠١]، فهم يسألون الله تعالى الدنيا والآخرة، ولكنهم يعضون بأنيابهم على الحياة الآخرة فلا يقدمون عليها أي شيء, وإذا تعارضت مصالحهم المادية مع دينهم فإنهم يضربون بمصالحهم المادية عرض الحائط ليحتفظوا بدينهم؛ لأن هذا الدين هو الذي من أجله خلقوا، ومن أجله استعبدهم الله عز وجل به.

هذا النوع الثالث هو الذي يجب أن يكون عليه الناس أجمعون؛ لأن الإسلام كما يكره الروحانية المنحرفة الموغلة؛ يكره أيضاً المادية المفرطة التي لا تؤمن بالأديان، ولذلك نحن نعيش الآن بين طرفي نقيض في أيامنا الحاضرة: الشيوعية الإلحادية المادية التي تنكر كل القيم والروحانيات، ولا تعترف بواحدة منها، فهذه نحن نرفضها؛ لأننا أمة خلقنا لهدف؛ ولأن الخالق هو الله سبحانه وتعالى، ونؤمن بالحياة الآخرة، وبالأديان، وبالرسول، وباليوم الآخر، أما الشيوعية فلا تؤمن بشيء من ذلك، فنحن نرفض الشيوعية ونعتبرها كفراً وإلحاداً، ونشكر الله سبحانه وتعالى أن هدانا بفضله.

وعلى الطرف الثاني من النقيض: الصوفية الموغلة في الروحانية، والتي لا تعطي الجسم شيئاً من حقه، وإنما تعطى الروح وحدها، وهذه أيضاً نحن نرفضها، يقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:١٤٣]، أي: بين طرفي نقيض، وهذه الوسطية سواء كانت في جغرافية الأمة الإسلامية، أو أخلاقها، أو عاداتها، أو عباداتها، أو سلوكها، تبرز دائماً.

وإذا نظرنا إلى الإسلام في أي مجال من المجالات وجدناه دائماً يتوسط بين طرفي نقيض، فمثلاً: يعيش الآن نظامان اقتصاديان في العالم: نظام يسمى: الرأسمالي، ومعنى الرأسمالي بمعناه الاصطلاحي لا اللغوي: أن نكسب المال من الحلال أو الحرام، وأن ننمي الربا، وألا يكون في أموالنا حق للسائل والمحروم، وليس هناك أي واجب في هذا المال، بل على الإنسان أن يسعى لكسب هذا المال من طرق الحرام أو الحلال، وعليه أيضاً أن يبخل بهذا المال بحيث لا ينفقه في أي وجه من وجوه الخير، هذه الرأسمالية بمفهومها الاصطلاحي، يقابلها في الطرف الآخر نظام كافر آخر يسمى: الاشتراكية، النظام الذي يريد أن يبتز أموال الأغنياء لا من أجل أن يرفع من مستوى الفقراء، ولكن من أجل مصالح وفوائد أخرى من أجل تثبيت عروش تهتز بأهلها من تحتهم، ولذلك فإن الله عز وجل جعلنا أمة وسطاً؛ فلا نحن ندين بالاشتراكية التي تظلم الناس وتأخذ أموالهم، ولا بالرأسمالية التي تكسب الأموال من الحلال أو الحرام، ولا تعترف بحقوق الغير أو الفقراء هذا هو المنهج القويم.

وقوله: (وسطاً) يحتمل معنيين أيضاً: بمعنى: العدول، وبمعنى: تتوسطون بين الأمم في كل حالة من الحالات، فنحن نشكر الله على ذلك.

أما الذين يريدون أن يحولوا الإسلام إلى روحانية ورهبانية ما أنزل الله عز وجل بها من سلطان؛ فإن هؤلاء رأيهم مرفوض؛ لأن هذا الدين لا يكون إلا بالروح وبالجسد، ونحن أيضاً نتوسط بين أعدائنا، فالشيوعية تذيب الفرد في سبيل الدولة، والرأسمالية تذيب الدولة في سبيل الفرد، أما نحن فالإسلام دين يعترف بالدولة ويعترف بالفرد، ويعطي كل واحد منهما حقه، ولذلك فإنه يحارب الرهبانية، ويقول الله عز وجل عن النصارى الذين انتحلوا الرهبانية وما فرضها الله تعالى عليهم: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:٢٧]، ثم يقول بعد ذلك الله تعالى: {إلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:٢٧]، يعني: هم فعلوها ابتغاء رضوان الله، {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:٢٧]، ولذلك حرم الإسلام الرهبانية، فالإسلام ليس دين الكهنوت ولا الرهبانية، ولكنه دين يتوسط بين الروح والجسد؛ فيعطي الإنسان حريته؛ بل يفرض عليه أن يسعى للبحث عن الرزق الحلال، ثم أيضاً يأمره بأن يستقيم على دين الله عز وجل في آنٍ واحد، ولذلك يقول الله عز وجل على لسان أهل الخير من قوم قارون الذين وعظوه فقالوا له: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:٧٦ - ٧٧]، فهم ما قالوا له: اتجه للآخرة فقط، ولكن قالوا: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:٧٧].

ولما جاء ثلاثة نفر إلى بيت من بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوا عن عمله في السر فأخبروا بعمله، فقال واحد منهم: أما أنا فأصلي الليل ولا أرقد، يعني: كل الليل أجعله في عبادة، وقال الثاني: وأنا أصوم النهار ولا أفطر، وقال الثالث: وأنا لا أتزوج النساء، يريدون الرهبانية والانقطاع للعبادة، فماذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لما علم بخبرهم؟ لم يغضب غضباً كغضبه في ذلك اليوم، فقام وخطب وقال: (أيها الناس! أما بعد: فوالله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له، وإني أصلي وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، هذه هي الحياة التي يجب أن نسعى لها، وليس معنى ذلك أن نقسم الحياة إلى قسمين: للدنيا وللآخرة، لا؛ بل نعمر الدنيا بقدر حياتنا فيها، ونعمر الآخرة بقدر مقامنا الطويل فيها، ومن هنا فلا نقدم مصلحة من مصالح الدنيا على هدف من أهداف الآخرة، وإذا كان أمام الإنسان أمراً من الأمور المحرمة التي يكسب فيها المال؛ فإنه يتصور أنه ما خلق لهذه الدنيا، وحينئذٍ يترك هذا الحرام ويكتفي بالحلال، وهذا كله تخلقه الحياة التي يتوسط فيها بين عمارة الدنيا وعمارة الآخرة، ولذلك يقول الله تعالى عن هذا الصنف: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة:٢٠١ - ٢٠٢]، هؤلاء هم الذين يدركون نصيباً؛ بخلاف من ذكر قبلهم فإن نصيبهم يضيع؛ لأنه أراد الدنيا وأخذ نصيبه من الدنيا، فانتهى أمره وأعطاه الله كل حقوقه في الدنيا، أعطاه صحة وعافية ومالاً وولداً ومركزاً وملكاً وسلطة، أما الثاني فإنه أراد الآخرة؛ فادخر له جزاؤه إلى الحياة الآخرة.