للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الله للوجهة الصالحة، والتسديد فيها، ما دام لا يملك لنفسه ذلك، وما دام محاسباً عليه، وما دامت هناك قوة مسلطة تنزع به إلى الشر.

ففي تخصيص الناس بالذكر، تنبيه إلى أنهم أحوج المربوبين إلى تأييد الله وأحقهم بطلب ذلك منه؛ وقد أرشدهم إلى ذلك وله الحمد.

ولو تفقه الناس في معنى اسمهم واشتقاقه، لعلموا بفطرتهم أنهم مخلوقات ضعيفة لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً، ولأيقنوا أنه لا بد لهم من رب يربيهم ويحميهم، ومالك يدبر أمورهم، وإله يعبدونه ويتخذون العبودية له جُنّة من استعباد الأقوياء.

ويجوز- إذا راعينا الأدب وكمال التنزيه في حمل الألفاظ التي تضاف إلى كلمة رب على أشرف معانيها- أن تحمل كلمة (الناس) على معنى أخص مما يتناوله عموم الجنس، وهو الأماثل والأخيار منهم الجامعون لمعاني الإنسانية الفاضلة، وهذا المعنى تعرفه العرب: فإنهم كثيرا ما يطلقون اسم الجنس على الفرد، أو الأفراد الكاملين في حقيقته، وإن كان هذا من المجاز في كلامهم؛ وقد حملوا على هذا المعنى قوله تعالى: {آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة: ١٣].

ونكتة الإعادة والإظهار للفظ الناس توضيح المعنى، وإلفات النفس إليه، وإيقاظ شعورها به، والتسجيل على الناس بأن لهم ربا هو مالكهم وإلههم.

[من شر الوسواس]

{مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ}.

(الوسواس) هنا صفة الموسوس، وإن خالف المعهود في أبنية الصفات أو هو اسم بمعنى الوسوسة كالزلزال والزلزلة.

وأصل هذه الكملة دائر على معنى الخفاء والعرب تسمي حركة الحلي وسواساً (١) وهذا المعنى واضح في المراد هنا؛ فإن الموسوس من الجن في نهاية الخفاء هو وعمله، والموسوس من الإنس يتحرى الإخفاء ما استطاع ويحكم الحيلة في ذلك، ولا يرمي رميته إلاّ في الخلوات.

وان الناس ليعرفون عرفاناً ضرورياً من الفرق بين المصلحين والمفسدين:

أن الأولين يصدعون بكملة الحق مجلجلة، ويرسلون صيحته داوية، ويعملون أعمالهم في وضح النهار ومحافل الخلق.

وأن الآخرين يتهامسون إذا قالوا، ويستترون إذا فعلوا، ويعمدون إلى الغمز والإشارة والتعمية، ولو وجدوا السبيل لكانت لهم لغة غير اللغات، ولكان الزمن كله ظلمات، والأرض كلها مغارات.


(١) ومنه قول الأعشى:
تَسْمَعُ لِلْحَلْيِ وَسْوَاساً إِذَا انْصَرَفَتْ ... كَمَا اسْتَعَانَ بِرِيحِ عِشْرِقٌ زَجِلُ
(انظر لسان العرب: ٦/ ٢٢٥ - مادة وسس).

<<  <   >  >>