للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أقول: (أوحى) هنا بمعنى (أذن) لها وسمح بالتحديث عما فعله العباد على ظهرها فاللام على أصلها والتضمين قائم في الفعل وهذا ما قاله ابن عباس: (أوحى لها: أذن لها). تلوّح هذا المعنى في نبل قدره ونباوة محله حين تعدى الفعل بغير حرفه. المشهد يرسم انفعالات الإنسان في مشهد القيامة الكبرى: ما لها ... مشدوه مأخوذ فزعا ورعبا. وإن اللغة لتضيق عن تفسير معنى الوحي هنا لأنه مذهل ومروع، فلا بد من إرسال الخيال ليتملى ما لا يطيقه البيان. الأرض تتحدث بعد أن أذن لها ربها بالحديث، تتحدث عما اقترفته الجوارح: السمع والبصر واللسان وسائر الأعضاء، وحتى عن أسرار الضمائر وما تخفيه الصدور. وهذه أدهى من كل داهية في ذلك الموقف. وفي الأثر: " من تاب توبة نصوحا أنسى اللَّه حافظيه وبقاع الأرض خطاياه ".

وإنَّ مِنْ عمله ما يسقط منه لحم وجهه، وإن منها ما يهرب من مواجهته بينه وبين نفسه، فكيف به على رؤوس الخلائق! فلا ييئس ولا ينخذل ويستمر في طلب التوبة. والندم اللذين لا حدود لهما ولا نهاية.

فليست هذه اللام بمعنى إلى ولا اختيرت مراعاة لفاصلة، ولا توفيرا لوزن. وإنما قَطَّر فيها البصير المصور ماء البيان لنبصر من سرها ما استتر، فلا تجفُ على هذه الحروف. وما تباعد منها عنك رده بلطف الصنعة إلى ما استودعته هذه اللغة من كنوز في أفعالها.

إنه التضمين وإنه لكنز ثمين.

* * *

<<  <  ج: ص:  >  >>