للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لقد سبق أن (انحدر التتار كالسيل الدافق على الدولة الإسلامية وأخذوا يقطعون أشلاءها جزءاً جزءاً حتى وصلوا إلى بغداد عاصمة الخلافة العباسية ووطئوها بنعالهم في شخص الخليفة المستعصم وتبدد بذلك شمل الدولة وانفرط عقد الخلافة لأول مرة.

وتفرقت الأمة إلى دويلات صغيرة، فلكل قبيلة فيها أمير للمؤمنين ومنبر.

وتنبهت المسيحية في أوربا وجمعت جموعها وقذفت الشرق المسلم في آسيا وأفريقيا بكتائبها في تسع حملات صليبية على خير ما فيها من فرسان ملوك وعتاد، وتمكنت هذه القوات الزاحفة من إقامة دولة صليبية في بيت المقدس وتهديد أمم الإسلام في الشرق والغرب ومهاجمة مصر أقوى هذه الدول إذ ذاك.

واستطاعت مصر بإيمانها أن تجمع بعض هذه الدويلات وتقذف بهم في نحر الصليبيين بقيادة صلاح الدين فتستعيد منهم بيت المقدس وتريهم كيف تكون الهزيمة في حطين، ثم تقف في وجه التتار بقيادة الظاهر بيبرس وتردهم على أعقابهم خاسئين في عين جالوت، ثم تعيد رسم الخلافة من جديد، ويريد الله بعد ذلك أن تقوم للإسلام دولة وارفة الظلال قوية البأس شديدة المراس تجمع كلمة أهله وتضم تحت لوائها معظم أممه وشعوبه ويأبى لها علو الهمة إلا أن تغزوا المسيحية في عقر دارها فتفتح القسطنطينية (١) ويمتد سلطانها في قلب أوربا حتى وصل إلى فيينا.

ثم وقع الطائر بعد ارتفاع في الدور الختامي للصراع الذي بدأته دولة البرتغال المسيحية غزوها للبحار الشرقية ومنطقة الخليج العربي تحت ستار الكشوف الجغرافية بقيادة فاسكو دي جاما حيث ألقت سفنه مراسيها في ثغر كاليكوت على الساحل الغربي للهند في اليوم الثامن عشر من مايو سنة ١٤٩٨ وكان شعار هذا الغزو الطارئ (الصليب أو المدفع) (٢).

وكان الدور الختامي في هذا الصراع الحرب العالمية الأولى سنة ١٤: ١٩١٨ الذي انتهى بهزيمة تركيا بذلك سنحت الفرصة كاملة لأقوى شعوب أوربا إنجلترا وفرنسا وإلى جوارهما إيطاليا فوضعت يدها على هذا الميراث الضخم من أمم الإسلام وشعوبه، وبسطت سلطانها عليها في أسماء مختلفة من احتلال واستعمار ووصاية وانتداب، وخلفتها أمريكا وروسيا في صور صدقات ومحالفات.

وإن الإسلام الذي أحيا أممه من قبل فواجهت الصليبية والتتار لقادر أن يفعل فعله اليوم -وهو فاعل- إن شاء الله حتى يبلغ ملك أمة الإسلام ما زوى لمحمد صلى الله عليه وسلم في الأرض.


(١) فتحها السلطان محمد الثاني عام ١٤٥٣ واتخذها عاصمة لدولته واستبدل بها اسماً جديداً هو استانبول- ومعناها دار السلام- وقد شرع هذا السلطان في الاستيلاء على روما مقر البابوية، ونزلت القوات الإسلامية العثمانية أوترانت في مملكة نابولي عام ١٤٨٠ وأسرت أحد عشر ألفاً من سكانها، واعتزم محمد أبو الفتوح أن يتخذ من أوترانت قاعدة يزحف منها شمالاً في شبه جزيرة إيطاليا حتى يصل إلى روما، وأقسم ليقدمن الطعام بين يديه إلى حصانه وهو واقف على مذبح الكنيسة البابوية في روما، ولكن عاجلته المنية في اليوم الثاني من شهر مايو عام ١٤٨١، وتنفست أوربا الصعداء حين علمت بوفاته وأمر البابا أن تقام صلاة الشكر ثلاث أيام.
انظر: الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها ١/ ١٤.
وكان أول عبور إسلامي لأوربا بعد فتح الأندلس عام ٧١١م سنة ١٣٥٦م على عهد السلطان أورخان ثاني السلاطين العثمانيين إذ عبرت جيوشه البحر من الأناضول إلى أوربا ومضت تكتسح أقاليم مسيحية أوربية واستولت على بلاد اليونان بما فيها شبه جزيرة المورة وبلغاريا ورمانيا والصرب والمجر وترسلفانيا.
المصدر السابق ١/ ٩: ٤٣.
وانظر رسالة بين الأمس واليوم للإمام الشهيد حسن البنا ٤٤: ٥٦.
(٢) الدولة العثمانية ١/ ٦٩٦: ٦٩٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>