للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وممن شارك المسيح في هذه الأزلية المدعاة، ملكيصادق كاهن ساليم الذي تنقل الترجمة العربية المشتركة في حاشيتها أن "بعض التقاليد اليهودية تعتبره كائناً إلهياً ومخلصاً سماوياً، ومن هنا قال النص [أي عبرانيين ٧/ ٣ الذي يأتي بعد قليل] على مثال ابن الله"، فما قصة هذا الملكيصادق؟

تجيبنا مخطوطات قمران أن ملكيصادق وُلِد بطريقة عجيبة، فقد حملت به أمه العجوز صوفونيم من غير زرع بشر، لأن "الكاهن نير لم يكن قد نام معها منذ اليوم الذي كان الرب قد أقامه أمام الشعب، فشعرت بالعار، واختبأت الأيام كلها" ثم أخبرت صوفونيم زوجها بخبرحملها، وماتت فجأة بين يديه، فظهر جبريل لزوجها مبشراً "هذا الطفل الذي ولد منها هو ثمرة حقة، وسأستقبله في الجنة، حتى لا تكون أباً لهبة الله" فلما أراد دفنها نير بمعاونة أخيه نوح "خرج الطفل (ملكيصادق) من صوفونيم الميتة".

وتنقل المخطوطات القمرانية أن الطفل "كان يتكلم بفمه ويبارك الرب"، ففرح نير به، وشكر الله "مبارك الرب إله آبائنا الذي لم يعاقب كهنوتي لأن كلمتك خلقت كاهناً عظيماً في رحم صوفونيم امرأتي" ثم لما بلغ الطفل الأربعين يوماً اختطف من الأرض "وقال الرب لميخائيل: انزل على الأرض، وخذ الطفل ملكيصادق الذي معه، وضعه محفوظاً في جنة عدن، لأن الوقت يقترب [وقت طوفان نوح]، وأنا سأفلت المياه كلها على الأرض .. وسأعيده في سلالة أخرى، وسيكون ملكيصادق رأس الكهنة في هذه السلالة"، وهكذا رفع الطفل إلى السماء، فلم تكن له نهاية على الأرض (١).

هذا المخلوق العجيب (ملكيصادق) يصفه بولس بالأزلية والأبدية: "ملكيصادق هذا ملك ساليم كاهن الله العلي .. بلا أب، بلا أم، بلا نسب، لا بداءة أيام له، ولا نهاية حياة، بل هو مشبه بابن الله، هذا يبقى كاهناً إلى الأبد" (عبرانيين ٧/ ١ - ٣)، فلم لا يقول النصارى بألوهية ملكيصادق الذي يشبه بابن الله، لكثرة صور التشابه بينهما، بل هو متفوق على المسيح الذي يذكر النصارى أنه صلب ومات، وله أم بل وأب - حسب ما أورده متى ولوقا -، في حين أن ملكي صادق قد تنزه عن ذلك كله، ورفع إلى الجنة!

والسؤال: لمَ لا يقول النصارى بمساواة المسيح لملكيصادق، فقد وضعهما الكتاب في منزلة واحدة "أقسم الرب ولن يندم: أنت [أيها المسيح] كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق" (المزمور ١١٠/ ٤)، فالمسيح وملكيصادق في مرتبة واحدة.

ومن هؤلاء الذين كانوا قبل إبراهيم ويستحقون الأزلية - لو فهمت النصوص على ظاهرها - حكمة البشر أو النبي سليمان الحكيم حين قال عن نفسه وعن حكمة الله التي تجسدت فيه وفي غيره من البشر: "أنا الحكمة أسكن الذكاء، وأجد معرفة التدابير .. الرب قناني أول طريقه، من قبل أعماله منذ القديم، منذ الأزل مسحتُ، منذ البدء، منذ أوائل الأرض، إذ لم يكن ينابيع كثيرة المياه، ومن قبل أن تقرر الجبال أُبدئتُ، قبل التلال أُبدئتُ " (الأمثال ٨/ ١٢ - ٢٥)، فقد أضحى سليمان أو الحكمة البشرية - وفقاً للفهم الظاهري الحرفي - مسيحاً للرب منذ الأزل.

وقول بعض النصارى أن سفر الأمثال كان يتحدث عن المسيح - عليه السلام - لا دليل عليه، فسفر الأمثال قد كتبه سليمان كما في مقدمته "أمثال سليمان بن داود" (الأمثال ١/ ١)، وقد تكرر في مواضع متفرقة منه استمرار سليمان الحكيم في الحديث، وهو يقول: "يا ابني أصغ إلى حكمتي" (الأمثال ٥/ ١)، وانظر (الأمثال ١/ ٨، ٣/ ١، ٣/ ٢١، ٧/ ١ وغيرها)، فالمتحدث في السفر هو سليمان عليه السلام والحكمة المتجسدة فيه.

وسليمان هو الموصوف بالحكمة في الكتاب المقدس، وأي حكمة؟ حكمة الله،


(١) مخطوطات قمران، كتابات ما بين العهدين (٣/ ١٦٥).

<<  <   >  >>