للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بيد أن ثمة مركزًا آخر ازدهر فيه الفكر الاعتزالي وغدا بمثابة المدرسة الثانية للمعتزلة، ألا وهو " بغداد ".

والحق أننا لا نعرف على وجه اليقين تاريخ ظهور هذه المدرسة، وإن كان الراجح لدينا أن هذا التاريخ لا يرجع إلى قبل عهد الرشيد، حيث ازدهرت بغداد نفسها من الناحية العلمية منذ عهد الرشيد الذي أولى العلم عناية فائقة وأنزل العلماء في دولته مكانًا رفيعًا، وبلغت مدرسة المعتزلة في بغداد أوج ازدهارها وذروة نفوذها منذ عهد المأمون الذي تبنى الآراء الاعتزالية وحمل الناس على الإيمان بها، وكانت سنة ٢١٨ هـ سنة المحنة التي ابتلي فيها المسلمون في أنحاء الإمبراطورية الإسلامية، وطلب المأمون منهم أن يقروا بخلق القرآن، وبحرية إرادة الإنسان وباستحالة رؤية الباري، ومن لم يفعل ذلك حكم بكفره، ولم تقبل شهادته.

على هذا النحو كانت مدرسة البصرة الاعتزالية أسبق إلى الوجود الفكري الإسلامي من مدرسة بغداد، وكانت الأخيرة بمثابة فرع للأولى.

وثمة فروق دقيقة نستطيع أن نتبينها بين المدرستين:

- أولها: أن مدرسة البصرة كانت أكثر نزوعًا إلى الاستقلال الفكري من مدرسة بغداد.

- ثانيها: أن شيوخ مدرسة بغداد كانوا أكثر اتصالًا بالحياة السياسية والعلمية من علماء مدرسة البصرة الذين كانوا منغمسين في بحوثهم العلمية مكتفين بتفكيرهم الهادئ في العقائد الإسلامية.

ولا غرابة في ذلك، حيث إن بغداد هي حاضرة الخلافة العباسية ومركز الحكم، ولخلفائها اتصال بالمعتزلة وإعجاب بآرائهم وحدب على شيوخهم.

- وثمة أمر ثالث يفرق بين المدرستين هو " أن مدرسة بغداد عرفت بالتعمق في البحث والانتفاع بالآراء الفلسفية إلى أقصى حد؛ لشدة حركة الترجمة في بغداد، فمثلًا نرى ثمامة ابن أشرس يذهب إلى أن العالم برز من اللَّه؛ لأن طبيعة اللَّه من شأنها الإيجاد بالطبع، ولا يمكن أن يتخلف ذلك، ولا شك أن هذا الرأي يؤدي إلى القول بقدم العالم؛ لأن طبيعة اللَّه لا تتغير، وثمامة في هذا الرأي متأثر بآراء أرسطو في قدم العالم ".

<<  <  ج: ص:  >  >>