للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالتكاليف بمشقة ملاحظ دنيوي إذ إن العبادة عناء وتعب، وقطع للنفس عن شهواتها فوجب أن يكون الغرض عائدًا عليه في الآخرة، وحينئذ يقال: إما أن يكون هذا الغرض هو التعذيب على قيامه بالتكاليف وأن ذلك ظلم قبيح جدًّا، لا يليق أن يتصف به اللَّه؛ فوجب أن يكون الغرض هو النفع أو بعبارة أخرى هو الثواب وهو المطلوب. وأما العذاب فقالوا فيه: إن مرتكب الكبيرة إذا ما مات ولم يتب لا يجوز أن يعفو اللَّه عنه، بل يجب عقابه؛ لأن اللَّه أوعد بالعقاب على الكبائر وأخبر به، فلو لم يعاقب على الكبيرة وعفا لزم الخلف في وعيده، والكذب في خبره، وهو محال.

وأيضا إذا علم مرتكب الكبيرة أنه لا يعاقب على ذنبه لم ينزجر عن الذنب، بل يكون ذلك تقريرًا له على ذنبه، وإغراء للغير عليه، وأن ذلك قبيح مناف لمقصود الدعوة إلى الطاعات وترك المنهيات.

وإذن فالثواب على الطاعات، والعقاب على المعاصي واجب لا يمكن أن يتخلف، وعقاب مرتكب الكبيرة هو الخلود في النار ".

والحق أن هذا الأصل من أصول المعتزلة يخالف ما عليه جمهور المسلمين من أن الله تعالى لا يجب عليه شيء من عقاب العاصي أو إثابة الطائع، وإن كان الحق لا يسوي بينهما فيثيب الطائع تفضلًا منه ورحمة مصداقًا لقول رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " لن يدخل أحدًا منكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني اللَّه منه بفضل ورحمة ".

أما العاصي فيعاقبه اللَّه بعدله، وإن شاء عفا عنه برحمته، ولا نوجب شيئًا على ربنا سبحانه له الأمر والمشيئة.

إن تحقيق الوعيد يرجع إلى قدرة اللَّه على العاصين والمذنبين فهم في قبضته واقعون تحت قهر قدرته، والعفو عنهم لا يلحق باللَّه نقصًا أو قبحًا؛ لأنه يعفو -إذا عفا- عن قدرة، والعفو عند المقدرة هو أسمى درجات العفو.

ثم إن قول المعتزلة بإيجاب الوعيد يعد حجرًا على إرادة اللَّه تعالى ومشيئته، وتقييدًا لرحمته.

<<  <  ج: ص:  >  >>