للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عليهم من غير كد ولا جهد ولا مؤنة، وكذلك اللباس؛ ثم لم يصبروا على ذلك حتى قالوا: (لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ)، فسألوا ربهم - الفوم، والبصل، ونحوه؟! على هذا طبِع الإنسان ملولًا عجولًا؛ ألا ترى أن اللَّه مكن في باطنه، وجعل في سعة رياضة نفسه، وصرفها إلى أحد الوجهين اللَّذين يجهد عليه ولا يذم، وهو أن يروضها ويعودها على الصبر والحكم والوقار، ويصرف تلك العجلة إلى الخيرات والطاعات التي يحمد عليها المرء بالعجلة، وإلا: ففي ظاهر الخلقة والطبع منشأ على العجلة وما ذكر؛ ألا ترى أنه قال: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (١٩) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (٢٠) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (٢١). إلا كذا، وهو ما ذكرنا - واللَّه أعلم - لكن بما امتحنه من الأمر والنهي والترغيب في الموعود والترهيب صيره بحيث يملك إخراجه عما طبع وأنشئ إلى حال أخرى بالرياضة التي ذكرنا؛ ألا ترى أنه ذكر الهلع والجزع، ثم استثنى إلا كذا؟! وعلى ذلك خلق اللَّه الخلق على همم مختلفة وأطوار متشتتة، لم يخلقهم جميعًا على همة واحدة، بحيث يرغبون جميعًا في معالي الأمور ومعاظم الحِرَف وأرفع الأسماء؛ بل طبعهم على أطباع مختلفة: فمنهم من يرغب في معالي الأمور ومعاظم الأمور والحرف، ومنهم من كانت همته الرغبة في الدون من الأمور والحرف في الحجامة والدباغة والحياكة ونحوها، وكذلك في الأسماء، ومنهم بخلاف ذلك، ولو كانت همتهم همة واحدة - لذهب المنافع والمعارف جميعًا، واللَّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (١٢)

اختلف فيه: قَالَ بَعْضُهُمْ: المراد بالليل والنهار: الشمس والقمر، أي: جعلنا في الشمس والقمر؛ ألا ترى أنه أضاف الآية إلى الليل والنهار حيث قال: (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً)، وحيث قال -أيضًا-: (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) وإنما يعلم ذلك بالقمر؛ ألا ترى أنه قال -أيضًا-: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا. . .) الآية، إنما أضاف معرفة عدد السنين والحساب إلى القمر، دل أنه بالقمر يعلم ذلك، وهو قول علي وابن عبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهم - وغيرهم من أهل التأويل؛ ويكون تأويل المحو الذي ذكر في قوله: (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ)

<<  <  ج: ص:  >  >>