للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إنما قال اللعين هذا - واللَّه أعلم - لما وقع عنده أن موسى حاد عن جواب ما سأله؛ لأنه إنما له سأله عن ماهيته فهو إنما أجابه عن قهره وربوريته؛ فظن أنه حائد عن جواب ما سأله؛ وكذلك قال لقومه: (أَلَا تَسْتَمِعُونَ) إلى ما يقول موسى؛ تعجبًا منه أني أسأله عن شيء وهو يجيبني عن شيء آخر.

ثم قال موسى: (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) فقال عند ذلك. (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) نسبه إلى الجنون لما ذكرنا أنه ظن أنه حائد عن الجواب في كل ما ذكر، إنما كان السؤال منه عن الماهية، وهو لم يجبه عنها، فعند ذلك قال موسى: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) لم يجبه موسى في كل ما ذكر عن الماهية، ولكن أجابه في الأول في بيان ربوريته وألوهيته حيث قال: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) ذلك، فعرف اللعين أنه ليس هو رب السموات والأرض لما يعلم أن لا صنع له في ذلك، وأنه لم ينشئهما ولكن أنشأهما رب العالمين على ما ذكر موسى، لكن كأنه لم يعرف حدوثهما ولا فناءهما بما ذكر له موسى؛ لما لم يشاهد حدوثهما وفناءهما، فلم يتقرر ذلك عنده لما يقع عنده أنهما كذلك كانا ويكونان أبدًا، فعند ذلك احتاج إلى أن ذكر له ما يشاهد حدوثهما وفناءهما وهو ما قال: (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ)، ذكر له ما شاهد حدوثه وفناءه، فإذا عرف حدوث ما ذكر وفناءه يعرف أنه إذًا لم يكن بنفسه ولا كان نفسه، ولكن بمحدث أحدثه وبمدبر دبره.

ثم قال: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا): ذكر هاهنا قدرته وسلطانه، وهو ما يأتي بالنهار من المشرق، وبالليل من المغرب، ويطلع الشمس من المشرق، ويغربها من المغرب؛ وكذلك القمر والنجوم، ففيه دلالة البعث؛ لأن من قدر على أن يأتي بالنهار من كذا، وبالليل من ناحية كذا، والشَّمس والقمر من كذا - قادر على البعث، لا يعجزه شيء؛ ففي كل حرف من هذه الأحرف دلالة واستدلال على شيء ليس ذلك في الأخرى.

وفي قوله: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) دلالة ربوبية اللَّه وألوهيته.

وفي قوله: (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) دلالة حدوث ما ذكر وفنائه، ودلالة محدث ومدبر.

وفي قوله: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) دلالة قدرته وسلطانه على البعث على الوجه الذي ذكرنا.

وفي ذلك دلالة أن اللَّه تعالى لا يعرف بالماهية ولا بما يحس، ولكنه إنما يعرف من جهة الاستدلال بخلقه، وبالآيات التي تدل على وحدانيته، حيث سأل فرعون موسى عن

<<  <  ج: ص:  >  >>