للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عاقبة ما لولا تلك العاقبة لكان لا يحمد؛ إذ في الحكمة التفريق بين الولي والعدو، وقد أشركهم جميعًا في هذه الدنيا بين الولي والعدو، ولو لم يجعل دارًا أخرى يفرق فيها بينهما لكان لا يحمد فيما أشركهم فيها.

والثالث: (إِلَّا بِالْحَقِّ) أي: بالبعث؛ لأنه لو لم يكن البعث لكان خلقه السماوات

والأرض وما بينهما لعبًا باطلا لا حقًّا، كقوله: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا).

وقوله: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ) سمى البعث: لقاء الرب، والمصير إليه والرجوع إليه، والبروز إليه، والخروج، وإن كانوا في الأوقات كلها بارزين له، خارجين، صائرين إليه، راجعين؛ لأن خلقه إياهم إنما صار حكمة لذلك البعث، والمقصود بخلقهم ذلك البعث؛ لذلك سمي البعث بما ذكرنا.

وقوله: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) هو يخرج على الوجوه التي ذكرنا في قوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ). وقوله: (كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا) يذكر أهل مكة ويوبخهم في تكذيبهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وسوء معاملتهم إياه بما ذكر من القرون الماضيهَ أنهم مع شدتهم، وقوتهم، وبطشهم، وكثرة أتباعهم وحواشيهم وأموالهم، وطول أعمارهم وبنيانهم - لم يتهيأ لهم الانتصار والامتناع عن عذاب اللَّه إذا حل بهم بتكذيبهم الرسل؛ فأنتم يا أهل مكة دونهم في القسوة والبطش والحواشي والأتباع، فكيف يتهيأ لكم الانتصار والامتناع من عذاب اللَّه إذا كذبتم الرسول، واللَّه أعلم.

وقوله: (فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) وجائز أن يكون على التقديم والتأخير، (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى) مقدمًا على قوله: (فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ) يقول: ما حل بهم من العذاب وعذبوا في هذه الدنيا بتكذيبهم، لم يظلمهم اللَّه، ولكن ظلموا أنفسهم بما أساءوا.

ويحتمل أن يكون قوله: (فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ) في تعذيبهم في الدنيا (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ثم يكون قوله: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى) في الدنيا (السُّوأَى) في الآخرة في النار، فيكون في الدنيا ما عذبوا في الدنيا عذاب عناد ومكابرة، وما يعذبون في الآخرة تعذيب كفر وتكذيب، وهو ما قال: (ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ).

وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَأَثَارُوا الْأَرْضَ) أي: كربوا الأرض وعمروها أكثر مما عمرها

<<  <  ج: ص:  >  >>