للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)، صير خلق السماوات والأرض إذا لم يكن هنالك رجوع إليه عبثًا باطلا، فهذا أولى وأحق أن يصرف إليه الآية، وعلى ذلك ما ذكر في قوله - تعالى -: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ. . .) الآية، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا)، أي: لا يستويان، ولو كان الأمر على ما ظن أُولَئِكَ أن لا بعث ولا نشور ولا حياة، كان في ذلك استواء بين من ذكر، وقد سوى بينهما في الدنيا، وفي الحكمة والعقل التفريق بينهما والتمييز؛ إذ لا يجوز التسوية بين الولي والعدوّ، وقد سوى بينهما في الدنيا؛ فعلم أن المراد به نفي الاستواء بينهما في دار أخرى، والله الموفق.

ثم اختلف أهل الكلام فيما يعطى الولي والعدو في هذه الدنيا من الصحة والسلامة؛ على قول أكثر المعتزلة أن اللَّه - تعالى - لا يعطي أحدًا في الدنيا من كافر أو مؤمن شيئًا إلا وهو أصلح له في الدِّين، ثم على قولهم لا يظهر عفو اللَّه تعالى في الآخرة؛ لأنهم يقولون: إنما يستوجبون الثواب والجنة بأعمالهم، لا برحمة اللَّه - تعالى - فإذا عفَا عن المسيء فلا يعلم أنه كان مستحقًّا لذلك أو يعفو عنه فضلا.

وعندنا أن ما أعطاهم إنما يعطيهم إفضالا منه ورحمة، فيعرفون فضله وإحسانه وعفوه، وأكثر أصحابنا يقولون: إن جميع ما أعطى الكافر في الدنيا فهو شر له؛ كقوله - تعالى -: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ)، ونحو ذلك ما يخبر أن ما يعطي إياهم يكون شرًّا لهم، وما أعطى المؤمنين يكون خيرًا لهم.

ولكن عندنا ليس هذا على الإطلاق والإرسال، ولكن ما كان توفيقًا منه على الخيرات في نفسها فهو خير له، وما كان خذلانًا فهو شر له، وليس على اللَّه حفظ الأصلح لهم؛ على ما يقوله المعتزلة، ولكنه يفعل بهم ما هو حكمة وعدل كما يفعل ما هو إحسان وفضل، واللَّه الموفق.

قَالَ الْقُتَبِيُّ: (اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ) أي: اكتسبوها، ومنه قيل لكلاب الصيد: جوارح.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٢) كأنه يقول - واللَّه أعلم -: (وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) أي: إنما خلق ما ذكر بالحق لتجزى كل نفس بما كسبت، فلو لم

<<  <  ج: ص:  >  >>