للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يعمل عملا إلا ويظهر فيه الضعف، فإذا لم يعجز ولم يضعف في خلق ما ذكر؛ دل ذلك على أنه إنما لم يضعفه؛ لأن قدرته ذاتية، ومن كانت قدرته ذاتية لا يعجزه شيء، فأما غيره إنما يعمل بأسباب فيقدر على العمل على قدر الأسباب ويعجز ربما عنه، والله أعلم.

أو يقول: إذ قد عرفتم أن اللَّه - تعالى - هو خلق السماوات والأرض، ثم لا يحتمل أن يخلقهما عبثًا باطلا؛ إذ لو لم يكن بعث كان خلقهما باطلا عبثًا، وأصله ما ذكرنا بدءًا: أن من قدر على إنشاء ما ذكر من السماوات والأرض وما فيهما بلا احتذاء تقدم ولا استعانة بغير، ثم الإمساك والقوام على التدبير الذي دبر إلى آخر الدهر، لا يحتمل أن يعجزه شيء.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)؛ لأنه قادر بذاته، لا بقدرة مستفادة.

قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: قوله: (وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ) يقال: عييت بهذا: أي: لم أحسنه، ولم أقو عليه.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) مرة قيل لهم: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى)، ومرة قيل لهم: (أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا) يقص هذا عليهم يومئذ ليعترفوا بالذي كانوا ينكرون في الدنيا؛ لأنهم كانوا ينكرون في الدنيا الرسل والآيات، وكانوا ينكرون كون البعث وعذابه، فيعرضون على النار، فيقال لهم: هذا الذي وعدتم في الدنيا، أليس هو حقا؟ فيعترفون ويقولون: (بَلَى وَرَبِّنَا) فيقال لهم: (فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) في الدنيا، واللَّه أعلم.

وقوله: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (٣٥) يلزم الرسل الصبر من وجوه ستة: ثلاثة مما خصوا هم بها، لا يشركهم غيرهم فيها، وثلاثة مما يشترك غيرهم فيها؛ فأما الثلاثة التي خصوا بها:

أحدها: هم بعثوا لتبليغ الرسالة إلى الفراعنة والأكابر والجبابرة الذين كانت عادتهم وهمتهم القتل، وإهلاك من خالفهم وعصى أمرهم ومذهبهم، فلم يعذروا في ترك تبليغ الرسالة إليهم مع ما ذكرنا من خوف الهلاك والقتل، فأمّا غيرهم من الناس قد أبيح لهم كتمان الدِّين الحق منهم حتى لا يهلكوا.

والثاني: ألزمهم الصبر بالمقام بين أظهر قومهم واحتمال ما كان يلحقهم منهم من

<<  <  ج: ص:  >  >>