للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الحرف الآخر وينفيه في الشاهد، فإنما ذكر هذه الأحرف لنفسه؛ ليعلم ألا يفهم من أوليته أولية الأشياء، ولا يفهم من آخريته ما يفهم من آخرية الأشياء، وكذلك ما ذكر من ظاهريته وباطنيته، وهذا كما ذكر: أنه عظيم ولطيف، وكل واحد منهما في الشاهد مما يناقض الآخر وينفيه: ما عظم ينفي ويناقض ما لطف؛ لئلا يفهم من عظمة ما يفهم من عظمة غيره، ولا من لطافته ما يفهم من لطافة غيره، واللَّه الموفق.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأول: الذي لا ابتداء له، والآخر: الذي لا انتهاء له، والظاهر: هو الغالب القاهر، الذي لا يغلبه شيء، والباطن: الذي لا تدركه الأوهام.

وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو الأول الذي له أولية الأشياء، والآخر الذي له آخرية الأشياء، والظاهر بالحجج والآيات، والباطن الذي لا تدركه الأوهام، واللَّه الموفق.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) كأن خلق ما ذكر من السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام: الستة الأيام التي تدور عليها أيام الدنيا، وهي أيام حكمة، فإنما خلق في هذه الأيام كيان الأشياء وأصولها، لا أنه خلق كلية الأشياء فيها، وما يكون أبد الآبدين، فعلى هذا التأويل يكون قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) أي: استوى أمره، فخلق الممتحن، وهم البشر؛ إذ المقصود بخلق هذه الأشياء كلها البشر، ولهم إنشاء هذه الأشياء.

وإن كان المراد من قوله: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أيام الدنيا الذي يكون اليوم مقداره ألف سنة؛ على ما ذكره في اية أخرى؛ فيكون ما ذكره من خلق السماوات والأرض وما بينهما خلق أصول الأشياء وكيانها وما يتولد منها، بل يقع ذلك على الكل، فيكون على هذا تأويل قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) البعث؛ أي: استوى خلق ما خلق وأنشأ من العالم بالبعث ما لولا ذلك البعث لم يكن إنشاء هذا العالم الأول حكمة؛ فالمقصود من إنشاء هذا العالم البعث، وله يصير إنشاؤه حكمة، فيكون به استواء الأمر.

ثم تأويل العرش: يحتمل الملك؛ استوى ملكه بخلق الممتحن أو بالبعث الذي ذكرنا، ولا نفسر أنه ما أراد بقوله: (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)؛ لأنه لا يعلم ما أراد به، إذ قال في ذلك: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) أمر أن يسأل به خبيرا، ولم يرد بذلك: أنه يسأل به عنه؛ فلا يسمع تفسيره، واللَّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا)، أي: كثرة ذلك وازدحامه، لا يلتبس عليه ولا يستر عنه شيء.

<<  <  ج: ص:  >  >>