للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقوله: (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ)، فهو للمؤمنين الذين اتخذوا الحياة الدنيا للآخرة، وعقلوا الآيات التي بينها لهم؛ للنظر فيها والتفكر والتأمل فيها، ووضعوها مواضعها، واللَّه أعلم.

وقوله: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) هو يخرج على الوجوه التي ذكرنا في قوله: (أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ).

قال الإمام الهندي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ): إن الحياة الدنيا وحبها لنفسه وعلى ما أنشئت وجعلت له -حكمة وحق وسرور ليس بغرور، وأما اختيارها وحبها لغيره واستعمالها لغير الذي أنشئت وجعلت- غرور ولعب ولهو؛ لأن من أحب شيئا استكثر منه، وحبسه لنفسه، وحفظه من نقصه وضياعه، واستبقاه لوقت حاجته ويوم فقره؛ فعلى ذلك من جمع الدنيا لنفسه وأحبها واستعملها فيما أذن له، وهو أن يجعلها زادا للآخرة وبلغة إليها، فإذا علم ذلك استكثر منها عند اللَّه ليوم فاقته، فمن أحبها واختارها لهذا، فليس بغرور، ولا لعب، بل سرور وبهجة، ومن طلبها لغيره واستعملها في غير ما أنشئت، كان غرورا ولعبا، على ما ذكر في قوله: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) على ما يختارون هم ويحبونها؛ وذلك أن اللَّه تعالى أنشأ لنا هذه النعم؛ حيث قال: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)، وقال: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)، يجب أن ينظر إلى ذلك بالتعظيم لها والإجلال، وليس الاستخفاف والهوان؛ ألا ترى أن ملكا من ملوك الأرض لو أكرم أحدًا بكرامة وأهداه بهدية، ثم علم منه الاستخفاف بها؛ فإنه يسلب منه هديته ويستحقره؛ فعلى ذلك يجب أن نتلقي نعمة اللَّه تعالى بالتعظيم والتبجيل والقبول الحسن، لا على الاستخفاف بها والإهانة.

ثم الناس بعد هذا رجلان:

رجل يرغب في نعمة الدنيا وجمعها، وجعلها عند اللَّه ذخرًا وزادا لوقت فقره وحاجته.

ورجل زهد فيها؛ خوفا من التقصير في عبادة اللَّه تعالى في حقوقه أن يشتغل بها، ويمنعه ذلك عن أداء حقوقه والاقتداء برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيما أمره، وله أسوة حسنة بنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.

وأما من ترك الدنيا وما أنشأ اللَّه تعالى فيها من النعم؛ استخفافا بها وهوانا، فهو الجاهل المستخف بنعم اللَّه تعالى الغافل عما أنشئت له الدنيا وما فيها، فهذا والذي

<<  <  ج: ص:  >  >>