للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كونها وقبل ظهورها كما يشتد على الخلق ويصعب عليهم، واللَّه أعلم.

وفي الآية دلالة خلق أفعال العباد؛ لأن اسم المصائب يقع على ما للخلق فيه صنع كما يقع على ما لا صنع لهم فيه، ثم أضاف اللَّه تعالى خلقها إلى نفسه مطلقا بقوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا)، دل أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى؛ ألا ترى أن اللَّه تعالى سمى ما يصيب بأيدي الخلق: مصيبة، فقال: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا)، وقال في آية أخرى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ. . .) الآية.

قالت المعتزلة: يقال: أصابنا كذا فيما لا صنع للخلق في ذلك، فأما ما فيه، صنع للخلق يقال: " أصبنا ".

لكن هذا فاسد؛ فإنه جائز أن يقال في كل ما أصابك: أصبته، وما أصبته أصابك؛ لأنه إذا أصابك شيء فقد أصبته، وذلك جائز في اللغة، واللَّه أعلم.

وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (٢٣) جعل اللَّه تعالى في طباع الخلق الحزن والأسى على ما فاتهم من النعمة وما ينزل بهم من البلاء والشدة، والسعة والفرح والسرور بما ينالون من النعمة، هذا هو المنشأ والمجعول في طباعهم.

ثم يخرج تأويل الآية بالنهي عن الأسى والحزن بفوت النعمة، وعن الفرح والسرور عند إصابتها على وجوه: أحدها: يقول - واللَّه أعلم - لكيلا تستكثروا من الأسى والحزن على ما فاتكم، فيحملكم ذلك على الشكوى من اللَّه تعالى، (وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) أي: لا تستكثروا من الفرح والسرور حتى يحملكم ذلك على الطغيان والعدوان، كما ذكر في الخبر: " أعوذ باللَّه من الفقر المنسي والغناء المطغي "، واللَّه أعلم.

والثاني: يقول: لكيلا يشغلكم الأسى والحزن على ما فاتكم من النعمة حتى يفوتكم أضعاف ذلك، وهو ما وعد لهم من الثواب إذا صبروا؛ كقوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)، ثم قال: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)، يقول: لا يشغلكم الجزع وترك الصبر عمَّا وعد لكم من الصلاة والرحمة والاهتداء؛ ولذلك الجزع في المصيبة أعظم المصيبتين، ويقول - أيضا -: ولا يشغلكم شدة الفرح والسرور بما

<<  <  ج: ص:  >  >>