للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الشاب المسلم بين السلبية والإيجابية]

د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي

الحمد لله الأول، والآخر، الظاهر، والباطن؛ الأول فليس قبله شيء، والآخر فليس بعده شيء، والظاهر فليس فوقه شيء، والباطن فليس دونه شيء. والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء، وسيد المرسلين سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم، الحمد لله القائل في محكم التنزيل: (اقرأ باسم ربك الذي خلق؛ خلق الإنسان من علق).

أما بعد:

فإن (الإيجابية) و (السلبية) كلمتان شاع استعمالهما في الأزمنة الأخيرة استعمالاً كثيراً على كافة المستويات؛ يستعملهما الصحفيون، والمؤلفون، وعامة الناس، فتجدهم يقولون هذه (ظاهرة إيجابية) وتلك (ظاهرة سلبية) و (فلان إيجابي) و (فلان سلبي). ولا نعلم لهاتين الكلمتين مدلولاً شرعي، لكن كما قيل: لا مشاحة في الاصطلاح. فالألفاظ أوعية للمعاني.

الإيجابية: تحمل معاني التجاوب، والتفاعل، والعطاء، والمساهمة، والاقتراح البنَّاء. والشخص الإيجابي: هو الفرد، الحي، المتحرك، المتفاعل مع الوسط الذي يعيش فيه.

والسلبية: تحمل معاني التقوقع، والانزواء، والبلادة، والانغلاق.

والشخص السلبي: هو الفرد البليد، الذي يدور حول نفسه، لا تتجاوز اهتماماته أرنبة أنفه، ولا يمد يده إلى الآخرين، ولا يخطو إلى الأمام.

وهذا التصنيف، أمر مشهور في القديم والحديث، فإن الله قسم الأخلاق، كما قسم الأرزاق. لكن الذي يهمنا، في هذا المقام، واقع الشباب المسلم الذين انتظموا في سلك الدعوة إلى الله، وحُسبوا من شباب الصحوة الإسلامية، فقد يصاب الشاب بداء السلبية، ويفقد مزية الإيجابية دون أن يشعر. تضمه حلقة ذكر، فيظن نفسه إيجابياً ويرى أقرانه في الشوارع، لا يشهدون ما يشهد، فيقول: هؤلاء سلبيون، وأنا الإيجابي.

فلا يسوغ أن نخدع أنفسنا، ونغش ذواتنا، بل علينا أن نتأكد بصورة حقيقيةٍ، من واقعنا وحالنا.

إننا حين نرصد هاتين الظاهرتين (الإيجابية)، و (السلبية)، في حياة المؤمنين، فإننا نجد أمثلة نادرة لقوم منَّ الله تعالى عليهم بالإيمان الفاعل، المتحرك، الذي نسميه في مصطلحنا المعاصر (الإيجابية). ومن تلكم الأمثلة:

أولاً: قصة مؤمن القرية

قال: الله عز وجل: "وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ" لنتأمل حال هذا الرجل الداعية، من خلال عدة وقفات:

الوقفة الأولى: (وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) جاء من مكان بعيد؛ لم يمنعه بُعد المكان أن يأتي ليبلغ دعوته، وينشر معتقده، فقد جاء من أقصا المدينة! فلم يقل: الشُّقة بعيدة، والمسافة طويلة، والأمر صعب، بل اطرح جميع هذه المعوقات. هذه واحدة.

والوقفة الثانية: إنه جاء (يَسْعَى) ولم يأتي ماشياً! فإن ما قام في قلبه من الحماس، والحمية، والحركة، والرغبة، في نقل ما عنده إلى الآخرين، حمله على أن يسعى.

الوقفة الثالثة: (من أقصا المدينة) وعادةً، لا سيما في الأزمنة السابقة، لا يسكن أقصا المدينة إلا بسطاء الناس، وضعفاؤهم، وفقراؤهم، فلم يمنعه ما هو عليه من شظف العيش ودنو المنزلة الاجتماعية، من أن يجهر بدعوته.

الوقفة الرابعة: "قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ" كلمة ً صريحةً، واضحةً، صرخ بها بين ظهراني قومه. ولربما كان هذا الإنسان قبل أن يمن الله تعالى عليه بالإيمان، لا يقوى أن يرفع طرفه إلى الملأ من قومه، مما يجد في نفسه من الشعور بالذلة والمهانة، فهو ليس

<<  <  ج: ص:  >  >>