للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد يكون هناك من الأسباب النظرية التي تجعل الكتاب ينتشر ويشتهر دون غيره إضافة إلى أمر الإخلاص، وهو عناية التلاميذ، وكثرة الأصحاب والأتباع، وفي عصرنا الحاضر الدعاية الإعلامية، وحسن الطباعة والإخراج وغير ذلك من الأمور الظاهرية التي في الحقيقة وحدها ليست بشيء إذا انعدم معها الإخلاص، بل لا أبالغ إذا قلت إن وجود الإخلاص وحده كاف في إشهار الكتاب وبقاءه على مدار التاريخ، ولو بدون دعاية أو حسن طباعة، بل ربما تصير أقوال العالم كتباً على مدار التاريخ لم يسطرها بيده، ولكن سطرها الإخلاص لله، والصدق معه، والجهاد باللسان، فيقيض الله لكلامهم من يدونه فيكون كتاباً ينفع الله به المسلمين أجمع، وقد حفظ لنا التاريخ شيئاً كثيراً من ذلك، وتراثاً ضخماً من أقوالهم.

ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس إخلاصاً في دعوته، وأعظمهم إيماناً، وأخشاهم لله؛ حفظ الله للأمة أقواله بل وأفعاله وتقريراته، وسيرته وغزواته، وكل صغيرة وجليلة من حياته، صلى الله عليه وسلم، مع أنه لم يدون كلامه صلى الله عليه وسلم في كتاب، ولا أمر به، بل نهى عنه حتى لا يختلط بالقرآن، فقيض الله لإمام المخلصين صلى الله عليه وسلم من يحفظ له أقواله وسنته، وقيض له من يحميها من التحريف والكذب من أئمة الجرح والتعديل، ومن يدونها في الكتب في عهد القرون الأولى، حتى بقيت إلى يومنا هذا، بقاء القرآن الكريم.

ولما سار الصحابة على نهج النبي (صلى الله عليه وسلم) في الإخلاص والدعوة والخشية لله أبقى الله لنا كثيراً من أقوالهم وأفعالهم بقدر إخلاصهم، فحفظت لنا كتب الآثار والمصنفات الكثير من أقوال أبي بكر وأفعاله؛ لأنه يأتي بعد النبي (صلى الله عليه وسلم) في الإخلاص واليقين، وهكذا عمر ثم عثمان ثم علي، وهكذا بقية الصحابة تزخر كتب المصنفات والآثار بتاريخهم وسيرهم وأحوالهم، يزيد بعضهم على بعض في الإخلاص وينقص، حتى صارت أقوالهم موضع قدوة واحتجاج واقتداء، وكذلك تلقى التابعون وأصحاب القرون المفضلة الثلاثة من الصحابة الإخلاص لله تعالى، فدون التاريخ مآثر وأقوال ثلة كبيرة من الصالحين والمخلصين منهم، فأضحت أقوالهم منارات تنير الطريق، وحكماً تزيد في الإيمان لم يجعلوها في كتب ولا مصنفات، ولا في دواوين ولا مؤلفات، حفظها عنهم التلاميذ والأصحاب فخلدها التاريخ لصدقهم وإخلاصهم، أمثال الحسن البصري وسعيد بن المسيب والسفيانين وأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم، والنماذج من أقوالهم ومآثرهم التي خُلِّدت كثيرة جداً لا تكاد تحصى، ولكن أشير إلى بعض المواقف التي تدلنا على مدى إخلاصهم في أقوالهم وكتاباتهم، فهذا حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس يتكلم في تفسير القرآن وبيان معانيه أمام حشد من المتلقين، ولم يدونه في كتاب له، بل لم يكن التأليف عندهم معهوداً، فيقضي الله تعالى أن تدون أقوال هذا الحبر في كتب التفسير ثم تفرد في كتاب مستقل بعد قرون يحمل اسم (تفسير ابن عباس رضي الله عنه).

وموقف آخر يرويه ابن عساكر عن أبي سعيد رضي الله عنه، فقد روى عن عكرمة قال قال لي ابن عباس ولعلي ابنه انطلقا إلى أبي سعيد الخدري فاسمعا من حديثه، فأتيناه وهو في حائط له، فلما رآنا قام إلينا، فقال مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أنشأ يحدثنا، فلما رآنا نكتب قال لا تكتبوا واحفظوه كما كنا نحفظ ... ) (١)، ومع هذا النهي منه رضي الله عنه فقد حفظت لنا السنة أحاديثه التي رواها، وتولى الله إبقاءها.


(١) تاريخ مدينة دمشق (٤٣/ ٤٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>