للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والجواب أنه لا يُمكن ذلك إذ إننا حين نزعم اشتمال الشريعة على الحرية لا بد أن نحدد مكان هذه الحرية، أي مكان التخيير المحض الخالي من أي عقوبة أو زجر في كل الخيارات، وهذا ما لا يوجد في الشريعة على الإطلاق حتى في المباحات إذ إنه ما من مباح إلا وتحف به ضوابط دقيقة تجعل فاعله على خطر الوقوع في المحظور عند تخطيها، وكأنه يسير على جسر ضيق قصير قريب البداية والنهاية ولا يمكن الجنوح عنه ذات اليمين أو ذات الشمال.

خذ مثالاً لذلك أكل الطيبات: أليس مباحا دون نزاع، منصوصاً على إباحته بالدليل القطعي ثبوتا ودلالة؟

ومع ذلك فإن شروط استمرار إباحته ماثلة دائماً بحيث لا يكاد يفلت، أحدٌ من وشك الخروج منها، فكل الطيبات يشترط في حلها، عدم الإسراف وعدم التبذير, وعدم التذرع بها إلى المحرم كأن يُتَّخذ وسيلة للخيلاء والكبر وكسر قلوب الناس،،إضافة إلى ما يختص به كل طيب من شروط للحل، كتذكية الأنعام وذكر اسم الله على الصيد وسقي الشجر من طاهر

وكذلك المال الذي يملكه الإنسان وهو بحكم الشريعة مسلط عليه كما يقول الفقهاء، لكن الحقيقة الشرعية أن تسليط الإنسان على المال إنما هو تسليط إئتمان على مال هو في يد فلان من الناس لكنه في حقيقة الأمر مال الله تعالى ومجعول في يد هذا الفرد لمنفعة الأمة لحكمة إلهية في إعمار الكون وتسخير الناس بعضهم لبعض، ولهذا عندما يؤول ملك المال ظاهراً إلى السفيه فإن الخطاب القرآني يُصَرِّح بنسبة المال للأمة، لأن صيرورة المال في يد السفيه تحول دون انتفاع الأمة به على الوجه اللائق، يقول تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} لكن حين يرشُد هذا السفيه فإن الآية التالية تعود إلى نسبة المال إليه نسبة اختصاص وائتمان يقول عز وجل: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} ثم تمنع الشريعة هذا الراشد من التصرف بالمال أي تصرف لا يحقق للمجتمع مصلحة وإن كان يحقق لصاحبة نماء آمناً، فهو ممنوع من كل صور الإنماء الذاتي للمال وهو الربا بجميع أنواعه والحيل إليه، كما أنه ممنوع من الوصية فيه بأكثر من الثلث وممنوع من حرمان ورثته منه أو اختصاص بعضهم بالوصية دون الآخر، وممنوع من الإسراف فيه والتبذير ومكلف فيه من الزكاة ومندوب إليه الصدقة منه .. إلى غير ذلك مما يؤكد أن المباحات محفوفة أيضا بالكثير من التكاليف التي تمنع من إطلاق لقب مصطلح الحرية على الشريعة بسبب تضمنها لها.

لكن الواقع والتاريخ يُشيران إلى أن هذه المباحات التي جعلها الله تعالى فُسحة للمسلم بل والعبادات التي أوجبها الله أو ندبه إليها يقع حظرها على المسلم أو على الإنسان بشكل عام من الطغاة والطواغيت الذين تُبتلى بهم الأمم كثيرا في كل زمان ومكان.

فيحرمون الإنسان من حقه الشرعي في الارتزاق والعمل، وحقه بل واجبه في اللباس الشرعي والصلاة مع الجماعة، كما يحاصرونه في زكاته وصدقاته وأمره بالمعروف ونهية عن المنكر، ويُسلطون عليه الحرام والمنكر حتى تصبح الموبقات جزءا من حياة المسلم لانفكاك له منها.

ولا شك أن المجتمع حين يقع تحت سلطة مثل هذه الحكومات يبقى مبتلى بأبشع أنواع الاستعباد، ومطاوعة حاكم يفرض الحرام ويمنع الحلال هي من اتخاذه ربا بنص القرآن الكريم {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: ٣١]

لكن البديل عن استعباد الحكام أو العبودية لهم يجب أن لا يكون الهوى، وهو ما تقتضيه المطالبة بالحرية حالاً أو مآلا.

أما حالاً، فكمطالبة دعاة الليبرالية والعلمانية بها، فاستبعاد هؤلاء لسلطة الشريعة إنما هو تسليم لسلطة النفس والهوى مباشرة أو بوسيط من الدساتير البشرية والقوانين الوضعية.

أما مآلا، فهو ما تؤول إليه عاجلا أو آجلا مطالبات الإسلاميين بالحرية.

فالحرية باعتبارها اليوم مصطلحا فلسفيا لا يمكن أن نغرسه في بقعة ما من العالم إلا وذهبت جذوره إلى الأعماق تبحث عن منابتها الأصلية.

<<  <  ج: ص:  >  >>