للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نقض دعاوى من استدل بيُسر الشريعة على التيسير في الفتاوى

للدكتور أحمد بن عبد الكريم نجيب

الطبعة الأولى

١٤٢٣ للهجرة - ٢٠٠٢ للميلاد

تقديم

الحمد لله وكفى وصلاةً وسلاماً على عباده الذين اصطفى، وبعد:

ففي أوج انتشار منهج التيسير في الإفتاء، عمَد بعض الميسِّرين إلى تكلّف إيجاد مرجعيّة شرعيّة، وتأصيل منهجيّة فقهيّة فجّةٍ، تعمَد إلى ما في نصوص الوحيين، وكلام السابقين، من أدلّة على أنّ الدين يُسرٌ لا مشقّةَ فيه، وتتذرّع بها لتبرير منهجها في إختيار أيسر المذاهب، والإفراط في التيسير في الفتاوى المعاصرة، إلى حدٍّ يبلغ حافّة الإفراط، ويخشى على من وَقَعَ فيها أن يصير إلى هاوية الانحلال من التكاليف أو بعضها، أو القول على الله بغير علم، بتقديمه ما يستحسنه بين يدي الله ورسوله.

وقد تأمّلت أدلّة القوم النقليّة، فإذا هي آيات مُحكمات، وأخبار صحيحة ثابتة، غير أنّي لم أجد فيها دليلاً على ما ذهبوا إليه، بل بعضها يدلّ على خلاف مذهبهم، ورأيت من المناسب بيان ما بدا لي في هذا الباب على عُجالةٍ، في هذه المقالة الوجيزة، من خلال مقصِدَين وخاتمة.

المقصد الأوّل

نصوص التيسير من الكتاب والسنّة

استدل دعاةُ التيسير بعموم النصوص الدالّة على أنّ التيسير ورَفع المشقّة مقصد من مقاصَد التشريع الإسلامي، كقوله تعالى:

(يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: ١٨٥].

وغفلوا عن الآية التي قَبلَها، وفيها رَفعُ رُخصة الفطر في رَمضان مع الكفّارة لمن قدِرَ على الصوم، وهو ما ثبتَ بقوله تعالى في الآية السابقة لها:) وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ([البقرة: ١٨٤].

رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ سَلَمَة بْن الأَكْوَع أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}، كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِر ويَفْتَدِي حَتَّى نَزَلَتْ الآيَة الَّتِي بَعْدهَا فَنَسَخَتْهَا.

قلتُ: وهذا من قبيل النسخ بالأشد، وهو من التشديد وليس من التيسير، في شيءٍ، فتأمّل!

ومثل ذلك استدلالهم بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: ٧٨]، متغافلين عن صدر الآية ذاتها، وهو قوله تعالى:) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ (مع أنّه لا مشقّة تفوق مشقّة الجهاد والتكليف به، فبقي أن يُحمل رَفع الحرج على ما رُفِعَ بنصّ الشارع الحكيم سبحانه، لا بآراء المُيَسّرين.

ومن هذا القبيل ما رواه الشيخان في صحيحيهما، وأبو داود في سننه , وأحمد في مسنده، عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ رضى الله عنها، قَالَتْ: (مَا خُيِّرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَأْثَمْ، فَإِذَا كَانَ الإِثْمُ كَانَ أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ).

وما رواه البخاري في كتاب العلم من صحيحه، ومسلم في الجهاد والسير عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه , عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «يَسِّرُوا ولاَ تُعَسِّرُوا، وبَشِّرُوا ولاَ تُنَفِّرُوا».

وفي روايةٍ للبخاري في كتاب الأدب: «يَسِّرُوا ولاَ تُعَسِّرُوا، وسَكِّنُوا ولاَ تُنَفِّرُوا».

وروى مسلم وأبو داود عَنْ أَبِى مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَعَثَ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: «بَشِّرُوا ولاَ تُنَفِّرُوا ويَسِّرُوا ولاَ تُعَسِّرُوا».

<<  <  ج: ص:  >  >>