للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هلْ واحدٌ منْ بينكمْ يعرفُ معنى الشَّام؟!

طالب بن عبد الله آل طالب

السبت٢٩شعبان١٤٣٢هـ

١ - كانت الطائرةُ تهبطُ بنا تدريجيًا سماءَ دمشق .. وكنتُ منصرفًا بكلِّ حواسّي لمتابعة المنظرِ الذي تطلُّ عليه النافذة .. لا أدركُ منه سوى ما يمنحهُ النظرُ الكليل .. هذه الأرضُ المباركةُ .. فكحّلْ عينَك أيّها العاشق .. يحتضنُها من الشمال الجبلُ الأشمُّ قاسيون .. وعلى جانبيها جنّتان .. أرضٌ درجَ عليها الأنبياء .. وسَرى بليلها الضياء .. وكان بها عزّ الإسلامِ .. ومدفنُ العظام العظام .. تكادُ تجدُ تحت كل صخرة أثرًا من ذكرى .. وحكايةً من غرام ..

لم يبلغ بي الشوقُ لزيارةِ أرضٍ كما فعلَ بي مع الشام .. ولم أروِ منها نظري بعدُ .. وقد كرّرتُ زيارتها مرّاتٍ ومرات ..

أعْلنوا من غرفةِ القيادة: مرحبًا بكم في مطارِ دمشقَ .. وقد وفوا لدمشق فلمْ يخطِفوا اسمَ المطار لكبيرٍ ولا صغير .. وللمكانِ قداسةٌ وذكرى لا يحسنُ أن تنتهكها أسماءُ الذوات ..

٢ - كان بي شوقٌ لرؤية القلعةِ التي سُجن بها شيخُ الإسلام .. وزيارة مرابعِ الحنابلة الكرام .. والصلاةِ بالجامع الأموي .. والتبضّعِ من سوق الحَميديّة .. ورشفِ قطراتٍ من برَدى .. والوقوفِ على قاسيون .. كان صوتُ ابن تيمية الحرّاني يسْري في خلَدي وهو يُقرّر "أنه قد جاء في فضل الشام وأهله أحاديثُ صحيحة .. ولا ريب أن ظهور الإسلام وأعوانه فيه بالقلب واليد واللسان أقوى منه في غيره .. وفيه من ظهور الإيمان وقمع الكفر والنفاق ما لا يوجد في غيره".

وكانَ عليُّ الطنطاويُ يتسامى في بيانٍ عجيب: "دمشق .. وهل توصف دمشق .. هل تُصوّر الجنةُ لمن لم يرها .. كيف أصفُها وهي دنيا من أحلام الحب وأمجاد البطولة وروائع الخلود .. من يكتبُ عنها وهي من جنات الخلد الباقية .. بقلمٍ من أقلام الأرض فانٍ ..

دمشق التي تعانقها الغوطةُ .. الأم الرؤومُ الساهرة أبدًا. تصغي إلى مناجاة السواقي الهائمة في مرابع الفتنة وقهقهة الجداول المنتشية من رحيق بردى .. الراكضة دائما نحو مطلع الشمس .. "

وكانَ نزارُ بن توفيق يُنشدُ في حزنٍ كبير:

"مسقطُ رأسي في دمشقَ الشام

هل واحدٌ من بينكمْ يعرف أينَ الشام؟

هل واحدٌ من بينكم أدمن سكنى الشام؟

رواه ماءُ الشام

كواهُ عشق الشام

تأكّدوا يا سادتي

لن تجدوا في كل أسواق الورود وردةً كالشام

وفي دكاكينِ الحُلَى جميعها .. لؤلؤةً كالشام

لن تجدوا مدينةً حزينةَ العينين مثلَ الشام"

وكنتُ في مقتبلِ حياتي حفيًّا بثقافةٍ يأسرُها فقهُ عالمٍ وجمالُ أديبٍ وإبداعُ شاعر .. لا تؤاخذُ كلّ طرفٍ بما يريده الآخرون .. ففعلت بي تلك النقولُ الأفاعيلُ .. وشقَّ بي ذلك التكوينُ .. وأدركتُ أنَّ لنفسي من هوى الشام زمانًا لا يزدادُ إلاّ مدة .. ونظرًا لا يرتدُّ إلاّ أكثرَ حدة .. وحقائق لا تستطيع وصفَها دقائقُ السطور ..

٣ - خرجنا من المطار .. وفاجأتني الصورُ التي لم تكن وقتئذ موجودةً ببلدي .. تدعو بالبقاء للرئيسِ المعظم .. وتهتفُ باسمه المجيد .. وتزعم أنّه سيكون القائدَ للأبد .. البناياتُ والطرقات .. الأنفاقُ والجسور .. المدارسُ والدور .. ما الأمر .. سألتُ السائقَ .. فأجابني: صدِّقني يا بُنيّ الصورُ حين تخرج من القلوب تسكنُ الجدران .. لم يكنْ بعد ذلك البيانِ بيان .. حانت مني التفاتة للخلف .. وإذا صورة السيد الرئيس على الزجاجة الخلفية لسيارة صاحبنا .. عدت لسؤاله من جديد وأجاب على الفور: لنتذكر لعنه في كل حين .. أخذتنا فترةُ صمت .. وتلفّتنا بكل اتجاه .. ثم قال بعد تنهيدة طويلة "مغلوبون على أمرنا يا سيدي .. والله مغلوبون".

<<  <  ج: ص:  >  >>