للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[إضاءات في طريق البناء الفكري المتوازن]

سلطان العميري

٢٢ ربيع الأول ١٤٣٢هـ

تمثل هزيمة حزيران سنة ٦٧م منعطفاً حاداً في تاريخ الفكر العربي المعاصر, فقد أضحت أطياف عديدة مقتنعة بأن التخلف العربي نابع من الداخل, ومن ثم فالإصلاح والخروج من الأزمة لا بد أن يكون منطلقاً ابتدءا من القواعد الداخلية لا من المعسكرات الخارجية.

فقامت نتيجة لتلك القناعة مشاريع فكرية عملاقة متوجهة نحو التراث تبحث في مواده، وتنقب في أرضيته وتحلل في أفكاره وتفكك في مضامينه, وقطعت شوطاً كبيراً في سبيل الظفر بما يمكن أن يكون مخلصاً للأمة العربية مما هي فيه من أزمات, وقد تنوعت تلك المشاريع في مناهجها ومبادئها ومنطلقاتها, وبالتالي في نتائجها ومستخلصاتها.

ثم شهد الفكر العربي منعطفا حادا آخر جعل لتلك المشاريع حضوراً مكثفاً في الوسط الثقافي, وانتشاراً واسعاً لدى الأجيال الشبابية, وغدت تمثل المادة الفكرية التي يبنى عليها ما يسمى بالفكر العربي, فأول ما يتبادر إلى الذهن عند سماع هذا المصطلح (الفكر العربي) هو تلك المشاريع التي انصبت على التراث الإسلامي بمناهجها المختلفة, مع أن الفكر العربي أوسع منها بكثير!

وذلك راجع إلى أن تلك المشاريع نالت نصيباً عالياً من الدعوة، وحظاً وافراً من الترويج، وقدراً كبيراً من الاستدعاء والتجميل والتحسين .. مع خلو الساحة الفكرية من المشاريع المنافسة التي تلبي حاجيات العقول المتسائلة.

وهذا النوع من الدعوة عادة ما يؤدي إلى حالة فقدان التوازن في عقلية المتلقي لتلك المشاريع, فهي توصل إلى استغراق عميق في تلقي الأفكار المتضمنة, وتؤول إلى ضعف شديد في الحاسة النقدية لدى المتلقي, وتنتهي إلى خفوت ظاهر في ثوران التساؤلات المشروعة حول منهجية البحث وآليات التحليل المتبعة في تلك المشاريع.

فإذا اجتمعت هذه الأحوال النفسية مع ما تعانيه تلك المشاريع نفسها من إشكاليات معرفية وتسربات منهجية طافحة, فإنه سيؤدي بالضرورة إلى إحداث أضرار جسيمة في كيان الفكر العربي المعاصر, ليس أقلها شيوع التقليد, واختفاء النقد والتجديد، وضحالة الحيوية والإبداع, وتحريف الحقائق وتضليل المفاهيم.

والأساسات البنائية للمسيرة الفكرية تبنى على الانفصال التام في عقلية القارئ عن تلك المشاريع, وتتطلب الحرص الشديد على التوازن في التعامل معها, وتتطلب أيضا الوعي بالتساؤلات المنهجية التي تحاكم إليها المواد المكونة لها, وتستوجب استحضار الإشكاليات النقدية التي تضفي على ذهنية المتلقي والقارئ الاستقلال وعدم الذوبان في أودية تلك المشاريع.

ومن المهم أن نشير إلى أن الخطابات المنصبة على التراث مكونة من مواد معرفية ثلاث, وكل مادة منها تدور حولها تساؤلات نقدية تحتاج إلى أجوبة واضحة ومحددة, وتتطلب فحصاً منهجياً ومعرفياً صارما.

أما المادة الأولى: فهي الآليات والمناهج التي تمثل الأرضية والقاعدة الصلبة للعملية النقدية, والغالب عليها أنها مستعارة ومنقولة من الفكر الغربي, وهذه المادة تتطلب الفحص المعرفي من جهات عديدة:

١ - التحقق من إمكانية نقل المناهج الفكرية من محاضنها الأصلية إلى محاضن أخرى مختلفة عنها في الخلفيات والطبيعة والتاريخ.

٢ - التحقق من اكتمال بناء تلك المناهج والانتهاء من جميع متطلباتها, والتأكد من أنها في محضنها الأصلي انتهت من طور البناء والتكميل.

٣ - التثبت من فهم الناقل لها، واستيعابه لمضمونها، وإدراكه لحقيقتها ولمسارها وتفاصيلها ومستلزماتها.

٤ - التحقق من سلامة تطبيق المستعير وتنفيذه لأجندتها على الأرضية الأخرى بشكل يتوافق مع مقتضياتها.

<<  <  ج: ص:  >  >>