للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[التسامح العقابي مع المبتدع وضرورة الإتقان المعرفي]

سلطان العميري

١٣ رجب ١٤٣١هـ

تعد مسألة التعامل مع المخالف من القضايا الشائكة على مر التاريخ، فالخلاف فيها ضارب في أعماق تاريخ الفكر الإسلامي، ومن يتتبع مراحل ذلك التاريخ يجد تباينات واسعة بين أتباع المذاهب في تحديد القول الصحيح فيها، وتحرير الضوابط الموافقة لمقتضيات الدلالات الشرعية المتقنة.

وها هو اليوم .. واقعنا المعاصر يشهد التباينات نفسها، ويعود فيه التاريخ من جديد، ليجعل هذه المسألة محل بحث ومثار جدل طويل.

وبلا شك يلحظ المراقب في خطابنا السائد ميلا إلى الجانب التشددي في الموقف من المخالف في مجالات عديدة، ومن مظاهر ذلك التشدد: الانطلاق من سوء الظن بالمخالف، وشيوع القدح في ديانته, والاتهام بسوء الطوية، وإغفال ماله من حقوق وتغليب الجانب النافي لها.

وهذه المظاهر تحتاج إلى إصلاح ومراجعة ومحاكمة إلى دلالات النصوص الشرعية وما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم.

وقد أراد عدد من المهتمين بهذه القضية التخلص من الصورة الخاطئة في التعامل مع المخالفين، وكان من أظهر القضايا التي أرادوا مزاولة التصحيح فيها: قضية العقاب الدنيوي للمبتدع، وحسنا قصدوا، ولكنهم حين أرادوا ممارسة هذه العملية التصحيحية لم تكن ممارستهم خالية مما يقدح في انضباطها أو ما يعرقل مسيرتها، وإنما وقعت في ممارسات استدلالية ووصفية وتحليلية خاطئة أدت بها إلى نتائج مخالفة أو غير متسقة مع المستندات الشرعية الصحيحة، فغدت طريقة التصحيح محتاجة إلى تصحيح، وعملية النقد تتطلب النقد.

وتبرز أعمق تلك الممارسات الخاطئة في الأمور التالية:

الأمر الأول: شيوع التوصيف المخالف للواقع، فقد عمد كثير من المتبنين للتسامح العقابي إلى بناء توصيفات شرعية وتاريخية خاطئة مخالفة للواقع، وأخذ يستند إليها في تقرير ما يريد أن ينتهي إليه، وهي غير صحيحة في نفسها، وبالتالي وقع في بناءات خاطئة.

والأمر الثاني: اختفاء المناطات الشرعية المؤثرة في الحكم، ومزاحمة المناطات الأخرى التي ليس لها تأثير في بناء أي حكم شرعي، فمن البدهيات الاستدلالية في المسائل الشرعية أن الواجب على الناظر في دلالات النصوص الشرعية التحرر من كل غرض نفسي أو واقعي أو مصلحي، ويتجرد لتحرير المناط الذي اعتبرته الشريعة في بناء الحكم الشرعي، ولكن الملاحظ في قضية التسامح العقابي عدم تحرير تلك المناطات المؤثرة، واختلاطها بمناطات أخرى لا تأثير لها، مما أوقع البحث فيها في صور عديدة تنافي الانضباط المعرفي والاستدلالي

وهذا البحث يريد أن يسلط الأضواء على هذين الخطأين المنهجيين ويبين آثارهما على طريقة البحث والتداول في قضية التسامح العقابي مع المخالف، ويدرس مدى ربط التسامح مع المبتدعة مثلا بعدم إجراء العقاب الدنيوي معهم.

... ... ...

أما الأمر الأول، وهو: التوصيف الخاطئ، فتتخلى أمثلته في القضايا التالية:

القضية الأولى: القول بأن المنافقين كانوا يعلنون كفرهم بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من غير إنزال عقوبة دنيوية بهم، ليتم التوصل بعد ذلك إلى أن ثمة تسامحا عقابيا كان مع المنافقين.

وقد استند هذا القول على نوعين من الأدلة:

النوع الأول: أن الله تعالى كثيرا ما يذكر عن المنافقين أقوالهم ومناقضتهم لما كان عليه المؤمنون وأنهم يتحدثون في مجالسهم بذلك، ووجه إلى المؤمنين التوجيه مباشرة ولم يذكر أي إجراء عقابي، وإنما كان يأمر بالإعراض وعدم الإلتفات إليهم ونحو ذلك، وهذا يدل على أن المنافقين كانوا يعلنون أقوالهم وإلا كيف توجه الخطاب إلى المؤمنين مباشرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>