للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تلميذ يحكي أحوال شيخه]

القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية

١١ صفر ١٤٣٣هـ

قال رحمه الله:

علِم الله، ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع كل ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو-مع ذلك- من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرِّهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه (١).

وقد شاهدت من قوته، وكلامه، وإقدامه، وكتابه أمراً عجيباً، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمراً عظيماً (٢).

ورأيته في المنام؛ وكأني ذكرت له شيئاً من أعمال القلب؛ وأخذت في تعظيمه ومنفعته، فقال: أما أنا، فطريقتي: الفرح بالله، والسرور به. أو نحو هذا من العبارة، وهكذا كانت حاله في الحياة، يبدو ذلك على ظاهره، وينادي به عليه حاله (٣).

وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض؛ أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه؛ فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة. فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها، ما استفرغ قواهم لطلبها، والمسابقة إليها (٤).

وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه! وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم.

وجئت يوماً مبشراً له بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني، وتنكر لي، واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم. وقال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه. ونحو هذا من الكلام، فسُرُّوا به، ودعوا له، وعظموا هذه الحال منه، فرحمه الله، ورضي عنه (٥)

وكان يقول كثيراً: ما لي شيء ولا مني شيء، ولا فيَّ شيء. وكان كثيراً ما يتمثل بهذا البيت:

أنا المكدِّي وابن المكدِّي وهكذا كان أبي وجدِّي

وكان إذا أُثْني عليه في وجهه، يقول: والله! إني إلى الآن أُجدِّدُ إسلامي كل وقت، وما أسلمت بعد إسلاماً جيداً (٦).

وقال: العارف يسير إلى الله عز وجل بين مشاهدة المنة، ومطالعة عيب النفس.

وكان يتمثل كثيراً:

عوى الذئب فاستأنستُ بالذئب إذ عوى

وصوَّتَ إنسانٌ فكدتُ أطيرُ

وكان يتمثل أيضاً:

وأخرجُ من بين البيوتِ لعلني

أُحدث عنك النفسَ في السر خاليا (٧).

وحدثني شيخنا، قال: ابتدأني مرض؛ فقال لي الطبيب: إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض.

فقلت له: لا أصبر على ذلك، وأنا أحاكمك إلى علمك؛ أليست النفس إذا فرحت وسرت، قويت الطبيعة، فدفعت المرض؟

فقال: بلى.

فقلت له: فإن نفسي تُسَرُّ بالعلم، فتقوى به الطبيعة، فأجد راحة.

فقال: هذا خارج عن علاجنا (٨).

وسمعت شيخنا رحمه الله يقول - وقد عرض له بعض الألم - فقال له الطبيب: أضر ما عليك الكلام في العلم، والفكر فيه، والتوجه، والذكر.

فقال: ألستم تزعمون أن النفس إذا قويت وفرحت؛ أوجب فرحها لها قوة، تعين بها الطبيعة على دفع العارض؛ فإنه عدوها، فإذا قويت عليه قهرته؟

فقال له الطبيب: بلى.

فقال: إذا اشتغلت نفسي بالتوجه والذكر، والكلام في العلم، وظفرت بما يشكل عليها منه، فرحت به وقويت، فأوجب ذلك دفع العارض هذا. أو نحوه من الكلام (٩).


(١) ((الوابل الصيب)) (ص: ٤٨).
(٢) ((الوابل الصيب)) (ص: ٧٦).
(٣) ((مدارج السالكين)) (٢/ ١٧٦).
(٤) ((الوابل الصيب)) (ص: ٤٨).
(٥) ((مدارج السالكين)) (٢/ ٣٤٥).
(٦) ((مدارج السالكين)) (١/ ٥٢٤).
(٧) ((الرد الوافر)) (ص: ٦٩).
(٨) ((روضة المحبين)) (ص: ٧٠).
(٩) ((مفتاح دار السعادة)) (١/ ٢٥٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>