للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[لا تجعل قلبك كالإسفنجة]

عبد الرحمن بن صالح المحمود

ليس هذا عنواناً صحفياً يرنو إلى لفت النظر إلى المقالة وجلب القارئ إليها، ولو كان ذلك - أحياناً - على حساب المضمون، كما هي عادة بعض الكتّاب، وإنما هو عنوان منهج عقدي وفكري يحتاج إليه كل قارئ وتعظم الحاجة إليه في عصرنا الحاضر؛ حيث العولمة بنفوذها الفكري ونفاذها التقني من خلال الإعلام وشبكات المعلومات.

العنوان نصيحة قدمها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - لأشهر تلاميذه، وهو ابن قيم الجوزية - رحمه الله تعالى - فنعم الناصح ونعم المنصوح.

يقول ابن القيم عن هذه النصيحة: (ما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك) ((مفتاح دار السعادة)) (١/ ٤٤٣). مع أنه قد تلقى عن شيخه عشرات بل مئات الوصايا، كما هو واضح لمن تتبّع ذلك في كتبه، لكن هذه الوصية كان لها شأن آخر في حياة ابن القيم ومنهجه، وقد مرّ بتجارب متنوعة (سطر خلاصتها في نونيته) فأنقذه الله من شبهات أهل الأهواء الذين وقع في شباكهم بتتلمُذهِ على شيخ الإسلام وملازمته له.

يقول ابن القيم في عرضه لهذه الوصية: (قال لي شيخ الإسلام - رضي الله عنه - وقد جعلت أورد عليه إيراد بعد إيراد: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة، فيتشربها؛ فلا ينضح إلا بها ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة، تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها؛ فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أَشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقراً للشبهات، أو كما قال) ((مفتاح دار السعادة)) (١/ ٤٤٣).

خلاصة الوصية عند ورود الشبهات والمقالات التي لا تعرف مصدرها هي:

١ - لا تجعل قلبك مثل السفنجة؛ أي: يتشربها ولا ينضح إلا بها.

٢ - واجعله كالزجاجة المصمتة؛ أي: يرها بصفائه ويدفعها بصلابته.

وسنقف مع هذه الوصية بقسميها، بعد أن نقدم لذلك بمقدمة مهمة، فنقول:

العلوم قسمان:

أحدهما: علم الشريعة المنزّل، مثل: كتاب الله الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة، وما هو تابع لهما، نابع عنهما، مثل: الآثار الصحيحة، والعلوم المؤصلة التي بيّنها أئمة السلف الصالح في العقيدة، والأحكام، والآداب، والسلوك، وعلوم القرآن وعلوم الحديث وأصول الشريعة، والفقه، وأصول العقيدة الصحيحة، وآلات ذلك: فهذه علوم بها حياة القلوب وطريق العبودية وتوحيد رب العالمين, ولا صلاح للعباد والبلاد في الدنيا والآخرة إلا بها.

فهذه ينبغي أن يتشرّبها قلب العبد المؤمن؛ لأنها طريق السعادة في الدارين، وسُلّم العبودية لرب العالمين.

الثاني: ما سوى ذلك من العلوم، وهذه أيضاً قسمان:

١ - علوم دنيوية بحتة: يؤخذ منها ما يحتاج إليه لحياة الإنسان على هذه الأرض والسعي في معاشه, وهذه إن قصد بها المعونة على طاعة الله أُثيب عليها، وإن صدّت عن طاعة الله أو قُدّمت عليها عوقب عليها.

٢ - العقائد والعلوم الفلسفية الفكرية المنحرفة: ومقالات أهل الأهواء والبدع (قديماً وحديثاً) ويدخل في ذلك المذاهب الفكرية المعاصرة بمختلف تياراتها ومنطلقاتها (شرقية أو غربية أو وطنية جاهلية).

وهذه الأخيرة هي الداء العُضال الذي إن تسلل إلى القلوب أفسدها، وغشاها بالشبهات والشكوك، وحلوها من يقين الإيمان وبرد التسليم والطاعة وسلامة القلب وصحته وقوته إلى الحيرة والتردد وتسلّط الوساوس، وضعف العبادة وقلة الطاعة، وتحول القلب من الأُنْس إلى الوحشة.

والشبهات من أشد الأشياء على القلوب وأثقلها حتى تكاد الشبهة أن تكون جبلاً، وأنَّى للقلب الرقيق تحمّله.

<<  <  ج: ص:  >  >>