للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وثانيهما: أن يكون إسباغه عَلَى الكريهات، والمراد أن يكون عَلَى حالة تكره النفس فيها الوضوء، وقد فُسِّر بحال نزول المصائب فإن النفس حينئذٍ تطلب الجزع، فالاشتغال عنه بالصبر والمبادرة إِلَى الوضوء والصلاة من علامة الإيمان كما قال الله عز وجل: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: ٤٥] وقال تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: ١٥٣].

والوضوء مفتاح الصلاة، وقد يٌطفأ به حرارة القلب الناشئة عن ألم المصائب، كما يؤمر من غضب بإطفاء غضبه بالوضوء.

وفُسِّرت الكريهات بالبرد الشديد، ويشهد له أن في بعض روايات حديث معاذ: " ... إسباغ الوضوء (عَلَى) (*) السبرات"، والسبرة: شدة البرد، ولا ريب أن إسباغ الوضوء في البرد يشق عَلَى النفس وتتألم به، وكل ما يؤلم النفوس ويشق عليها فإنَّه كفارة للذنوب وإن لم يكن للإنسان فيه صنعٌ ولا تسبب كالمرض وغيره كما دلت النصوص الكثيرة عَلَى ذلك.

وأما إن كان ناشئًا عن فعل هو طاعة لله فإنَّه يكتب لصاحبه به أجر، وترفعِ به درجات كالألم الحاصل للمجاهد في سبيل الله تعالى، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: ١٢٠]، وكذلك [ألم] (**) الجوع والعطش الَّذِي يحصل للصائم، فهكذا التألم بإسباغ الوضوء في البرد. ويجب الصبر عَلَى الألم بذلك، فإن حصل به الرضى فذلك مقام خواصِّ العارفين المحبين، وينشأ الرضا بذلك عن ملاحظة أمور:

أحدها: تذكر فضل الوضوء من حطَّه للخطايا، ورفعه للدرجات وحصول الغرة والتحجيل به، وبلوغ الحلية في الجنة إِلَى حيث يبلغ، وهذا كما انكسر ظفر


(*) في: "نسخة".
(**) من المطبوع.