للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقَال أَبُو يزيدَ البَسْطَاميُّ: طَلَّقْتُ الدُّنْيَا ثلاثًا بتاتًا، لا رجعةَ لِي فيها، وصرتُ إِلَى ربي وحدي، ونَاديتُهُ بالاستعانةِ: إِلهي، أدعُوكَ دُعاءَ من لم يَبقَ لهُ غيرُكَ. فلما عَرفَ صِدقَ الدُّعاءِ من قلبي واليأسَ مِن نَفسي كَانَ أَوَّلُ ما وردَ عليَّ من إجابةِ هذا الدُّعاءِ أن أنساني نَفسي بالكُلية، ونَصبَ الخَلَائقَ بين يدي مع إعراضي عنم.

وكَانَ يُزارُ مِن البُلدانِ، فلما رأَى ازدحامَ الناسِ عليهِ قال:

وَلَيتَني صِرْتُ شَيئًا ... مِنْ غَيرِ شَئء (أَعُد) (*)

أَصْبَحْتُ للكل مَوْلًى ... لِأَنَّنِي لَكَ (عَبْد) (*)

وَفِي الْفُؤَادِ أُمُورٌ ... مَا تُسْتَطَاعُ تُعَد

لَكِنْ كِتْمَانُ حَالِي ... أَحَقُّ بِي (وَأَشَد) (*)

كَتَبَ وهبُ بنُ مُنبِّهٍ إِلَى مَكحولٍ: أَمَّا بعدُ، فإنكَ أصبتَ بظاهرِ علمكَ عندَ الناسِ شَرفًا ومنزلةً، فاطلُبْ بباطنِ علمكَ عندَ اللَّه منزلةً وزُلْفَى، واعلمْ أنَّ إِحدَى المنزلَتيِن تمنعُ من الأخْرى.

ومعنى هَذا أَنَّ العلمَ الظاهرَ من تعلُّم الشَّرائعِ والأحكامِ، والفَتاوى والقَصص والوَعظِ ونحوِ ذلك مما يظهرُ للناسِ يَحصلُ بهِ لصاحبهِ عندَهُم منزلةٌ وشرفٌ، والعلمُ الباطنُ المودَعُ في القلوبِ من معرفةِ اللَّه وخشيتِهِ، ومحبتِهِ ومُراقبتِهِ، والأنسِ بهِ والشوقِ إِلَى لقائِهِ، والتوكلِ عليهِ والرّضى بقضائِهِ، والإعراضِ عن عَرَضِ الدُّنْيَا الفاني، والإقبالِ عَلَى جَوهرِ الآخرةِ الباقي، كلُّ هذا يوجبُ لصاحبهِ عندَ اللَّه منزلةً وزُلْفَى، وإحدَى المنزلتينِ تمنعُ من الأُخرى.

فمن وقفَ مع منزلتِهِ عندَ الخلْقِ، وانشغلَ بما حَصَل لهُ عندَهم بعلم الظاهرِ من شرفِ الدنيا، وكان همُّهُ حِفظَ هذهِ المنزلةِ عندَ الخلقِ وملازَمتَهَا وتربيتها


(١) من "ك" وفي باقي النسخ الثلاث الأخري زيادة الألف بمد الدال.