للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

للإخراج من الحكم لكن صار حقيقة عرفية في مناقضة المستثنى منه، وهذا يشبه بقل اللفظ عن المعنى الخاص إِلَى العام، إذا صار حقيقة عرفية فيه. كقولهم "لا أشرب له شربة ماء" ونحو ذلك، وكنقل الأمثال السائرة ونحوها مما ليس هذا موضع بسطه.

وهذا الجواب ذكره أبو العباس ابن تيمية في بعض كلامه القديم، وهو يقتضي أن دلالة "إِنَّمَا" عَلَى الحصر إِنَّمَا هو بطريق العرف والاستعمال، لا بأصل وضع اللغة، وهو قول حكاه غيره في المسألة.

وأما قوله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (١) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّمَا الربا في النسيئة". وقوله: "إِنَّمَا الشهر تسع وعشرون".

وقولهم: "إِنَّمَا العالم زيد" ونحو ذلك. فيقال:

معلوم من كلام العرب أنهم ينفون الشيء في صيغ الحصر وغيرها تارةً لانتفاء ذاته، وتارة لانتفاء فائدته ومقصوده، ويحصرون الشيء في غيره تارةً لانحصار جميع الجنس فيه، وتارةً لانحصار المفيد أو الكامل فيه، ثم إنهم تارة يعيدون النفي إِلَى المسمى، وتارةً إِلَى الاسم، وإن كان ثابتًا في اللغة إذا كان المقصود الحقيقي بالاسم منتفيًا عنه ثابتًا لغيره كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (٢).

فنفى عنهم مسمى الشيء مع أنه في الأصل شامل لكل موجود من حقٍ وباطلٍ، لما كان ما لا يفيد ولا منفعة فيه يئول إِلَى الباطل الَّذِي هو العدم فيصير بمنزلة المعدوم، بل قد يكون أولى بالعدم من المعدوم المستمر عدمه؛ لأنّه قد يكون فيه ضرر، فمن قال الكذب فلم يقل شيئًا، ومن لم يعمل ما ينفعه بل ما يضره فلم يعمل شيئًا، ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكفار فَقَالَ: "ليسوا بشيء" (٣).

ويقول أهل الحديث عن بعض الرواة المجروحين أو الأحاديث الواهية:


(١) الأنفال: ٢.
(٢) المائدة: ٦٨.
(٣) أخرجه البخاري (٦٢١٣، ٥٧٦٢، ٧٥٦١)، ومسلم (١٢٢، ١٢٣، ٢٢٢٨) من حديث عائشة وعندهما: "الكهان" بدلاً من "الكفار".