للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

موجود بأوجز لفظ وأخصر عبارة، ولا يوجد في كلام من بعدهم من باطل إلا وفي كلامهم ما يبين بطلانه لمن فهمه وتأمله، ويوجد في كلامهم من المعاني البديعة والمآخذ الدقيقة ما لا يهتدي إليه من بعدهم ولا يُسلِّم به.

فمن لم يأخذ العِلْم من كلامهم فاته ذلك الخير كله مع ما يقع في كثير من الباطل متابعة لمن تأخر عنهم، ويحتاج من أراد جمع كلامهم إِلَى معرفة صحيحه من سقيمه، وذلك بمعرفة الجرح والتعديل والعلل، فمن لم يعرف ذلك فهو غير واثق بما ينقله من ذلك ويلتبس عليه حقه بباطله، ولا يثق بما عنده من ذلك.

كما يرى من قل علمه بذلك لا يثق بما يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلم عن السَّلف لجهله بصحيحه من سقيمه، فهو لجهله يجور أن يكون كله باطلا لعدم معرفته بما يعرف به صحيح ذلك وسقيمه.

قال الأوزاعي: العِلْم ما جاء به أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فما كان غير ذلك فليس بعلم. وكذا قال الإمام أحمد، وقال في التابعين: أنت مخير -يعني: مخير في كابته وتركه.

وقد كان الزهري يكتب ذلك، وخالفه صالح بن كيسان ثم ندم عَلَى تركه كلام التابعين.

وفي زماننا يتعين كتابة كلام أئمة السَّلف المقتدى بهم إِلَى زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد، وليكن الإنسان عَلَى حذر مما حدث بعدهم، فإنَّه حدث بعدهم حوادث كثيرة، وحدث من انتسب إِلَى متابعة السنة والحديث من الظاهرية ونحوهم وهو أشد مخالفة لها لشذوذه عن (الأمة) (١) وانفراده عنهم بفهم يفهمه، أو يأخذ ما لم يأخذ به الأئمة من قبله.

فأما الدخول مع ذلك في كلام المتكلمين أو الفلاسفة فشر محض، وقلَّ من دخل في شيء من ذلك إلا وتلطخ ببعض أوضارهم (٢).


(١) في المطبوع: "الأئمة".
(٢) أوساخهم، وهي من وسخ الدسم واللبن "القاموس" مادة: "وضر".