للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وفقهاء أهل المدينة والذين كانوا يسمون بمدرسة الحديث كانوا يرون أن دلالة العام ظنية، وبالتالي فسنة الآحاد لأنها من الخاص، تخصص عام القرآن وكما تخصص عام الأحاديث المتواترة والمشهورة، ويرون أن السنة كلها تستقل بتشريع الأحكام ولو كان راوي الخبر لم يعمل به فالمعمول عليه عندهم هو صحة السند، ولكن الإمام مالك وهو من فقهائهم كان يقدم عمل أهل المدينة على أخبار الآحاد، ونسب إليه أنه يقدم القياس وظاهر القرآن على سُنَّةِ الآحاد، ولهذا لم يعمل بحديث «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا [إِحْدَاهُنَّ] بِالتُّرَابِ» وذلك لعدم روايته التتريب مع الغسل (" تنوير الحوالك ": ص ٥٥، و" الموافقات " للشاطبي: ج ٣ ص ٢١).

وسبب ذلك أن الإمام مالك يرى أن عمل أهل المدينة هو بمثابة رواية جماعية وبالتالي يقدمه على الآحاد، وهو لا يقدم عليها القياس مطلقًا بل يقدم ما اعتضد منه بقاعدة عامة قطعية، وفي هذا يقول ابن رشد: «ومالك يرجح القياس الذي تشهد له الأصول على الأثر الذي لا تشهد له الأصول» (١).

بالتالي إذا تعارضت الرواية الجماعية مع رواية الآحاد قدم الرواية الجماعية على رواية الآحاد، وليس أدل على ذلك من أن الإمام مالك قال في كتابه " الموطأ ": «إن في كتابي هذا حديث رسول الله وقول الصحابة وقول التابعين ورأيا هو إجماع أهل المدينة».

كما أن الإمام مالك يبرأ من تقديم شيء على الكتاب والسنة فقد روى ابن حزم في كتابه " الأحكام " عن معين القزاز عن الإمام مالك أنه قال: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أُخْطىءُ وَأُصِيبُ، فَانْظُرُوا فِي رَأْيِي فَكُلُّ مَا وَافَقَ الكِتَابَ وَالسُنَّةَ فَخُذُوا بِهِ، وَكُلُّ مَا لَمْ يُوَافِقْ الكِتَابَ وَالسُنَّةَ فَاتْرُكُوهُ».


(١) " مناهج الاجتهاد " للدكتور مدكور: ص ٦٣٠، و " إعلام الموقعين " لابن القيم: ج ١ ص ٢١، وانظر في ذلك " إعلام الموقعين ": ج ١ ص ١٣٠، و " أدب الاختلاف " للدكتور طه فياض: ص ٨٤ و ٩١.

<<  <   >  >>