للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٢ - الفَصَاحَةِ التَّامَّةِ: وَهِيَ الَّتِي تَسْبِي العُقُولَ وَتُغَيِّرُ الأَفْكَارَ، وَتُؤَثِّرُ فِي القُلُوبِ، وَعَلَيهَا يُحْمَلُ الحَدِيثُ هُنَا.

وَوَجْهُ كَونِهِ مِنَ السِّحْرِ هُوَ أَنَّ صَاحِبَهُ يُؤَثِّرُ فِي النَّاسِ بِاسْتِمَالَةِ قُلُوبِهِم عَلَى وَجْهٍ خَفِيٍّ؛ فَيَعْمَلُ عَمَلَ السِّحْرِ فَيَجْعَلُ الحَقَّ فِي قَالِبِ البَاطِلِ؛ وَالبَاطِلَ فِي قَالِبِ الحَقِّ!

- قَولُهُ: ((مِنَ البَيَانِ)) اخْتَلَفَ أَهْلُ العِلْمِ فِي كَونِهِ سِيقَ لِلمَدْحِ أَمْ لِلذَمِّ، فجَعَلَهُ بَعْضُهُم لِلذَّمِّ لِكَونِهِ سَمَّاهُ سِحْرًا، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُم مَدْحًا لِكَونِهِ عَنِ البَيَانِ -وَالبَيَانُ نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى-.

وَالأَرْجَحُ -وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ- هُوَ أَنَّهُ يُمْدَحُ أَو يُذَمُّ بِحَسْبِ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ مِنْ حَقٍّ أَو بَاطِلٍ -إِذَا خَلَا مِنَ التَّكلُّفِ-.

وَفِي الأَدَبِ المُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنَ عُمَرَ ﵄: قَدِمَ رَجُلَانِ مِنَ المَشْرِقِ -خَطِيبَانِ- عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَامَا فَتَكَلَّمَا ثُمَّ قَعَدَا، وَقَامَ ثَابِتُ بْنُ قَيسٍ -خَطِيبُ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَتَكَلَّمَ، فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِهِمَا، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَخْطُبُ فَقَالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا قَولَكُمْ؛ فَإِنَّمَا تَشْقِيقُ الكَلَامِ مِنَ الشَّيطَانِ) ثُمَّ قَالَ: ((إِنَّ مِنَ البَيَانِ سِحْرًا)) (١)، وَتَشْقِيقُ الكَلَامِ: هُوَ المُبَالَغَةُ فِيهِ وَتَزْيِينُهُ (٢).

- فَائِدَةٌ: يَدْخُلُ فِي إتْيَانِ الكُهَّانِ قِرَاءَةُ المَجَلَّاتِ الَّتِي فِيهَا بُرُوجُ الحَظِّ، فَالإِنْسَانُ يَقْرَؤُهَا وَقَدْ يَفْتَتَنُ بِهَا، فَهِيَ مِنْ جِنْسِ إِتْيَانِ الكُهَّانِ.


(١) صَحِيحٌ. صَحِيحُ الأَدَبِ المُفْرَدِ (٦٧٥).
(٢) قَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ فِي دِيوَانِهِ (٢/ ١٦٩):
"في زُخْرُفِ القَولِ تَرْجِيحٌ لِقَائِلِهِ … وَالحَقُّ قَدْ يَعْتَرِيهِ بَعْضُ تَغْيِيرِ
تَقُولُ هَذَا مُجَاجُ النَّحْلِ تَمْدَحُهُ … وَإِنْ تَعِبْ قُلْتَ ذَا قَيءُ الزَّنَابِيرِ
مَدْحًا وَذَمًّا ومَا جَاوَزْتَ وَصْفَهُمَا … سِحْرُ البَيَانِ يُرِي الظَلْمَاءَ كَالنَّورِ".

<<  <  ج: ص:  >  >>