للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في الولد، وإن كان شيخاً كبيراً قد ضعف ووَهَن منه العظم، واشتعل رأسه شيبًا، وإن كانت امرأته مع ذلك كبيرة وعاقرًا، لكنه مع هذا كله سأل ربه وناداه نداءً خفيًّا، وقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ} أي: من عندك {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} أي: ولداً صالحاً {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} قال الله تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} أي: خاطبته الملائكة شفاها خطابًا أسمعته، وهو قائم يصلي في محراب عبادته، ومحل خَلْوَته، ومجلس مناجاته، وصلاته. ثم أخبر عما بشّرته به الملائكة: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} أي: بولد يوجد لك من صلبك اسمه يحيى. قال قتادة وغيره: إنما سُمِّي يحيى لأن الله تعالى أحياه بالإيمان» (١).

فزكريا عليه السلام قد شرح أسباب دعائه، وعرض ضعفه على القويِّ؛ فهو واهِنُ العظم، أشيب الرأس، يخاف الموالي، وامرأته - فوق كلِّ ذلك - عاقرٌ لا تُنجب، وهو يَطلب الولد!

إنَّ أيَّ شخص غير واثق بالله لو يعلم أنَّ شيخًا كبيرًا لا ينجب، وامرأته عاقرٌ، وقد علاه المشيب، يدعو الله الولد - سيقول إذ ذاك: لقد جنَّ الشيخ وربِّ الكعبة! ويحدث أن يستهزئ به، أو يسخر منه، ونسي أنَّ الله لا يعجزه شيء.

إن الله تعالى لا يطلب منَّا أن نقدِّم لأسباب دعائنا، وأن نشرح أحوالنا وأمورنا؛ فهو يعلم السِّر وأخفى - لا يطلب ذلك إلاَّ لأجل أن يستحضر المحتاج حالة ضعفه، وأن يخشع قلبه، وتَخضع جوارحه، ويكون منكسرًا صادقًا في دعائه، وقد كان زكريَّا هكذا، فهذا أدبٌ من آداب الدعاء، ورسنٌ من أرسان قبوله.


(١) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، ٢/ ٣٧.

<<  <   >  >>