للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مواقف المخالفين من مذهب السلف]

وبهذا يتحصل أن طوائف المخالفين على صنفين في موقفهم من مذهب السلف:

الأول: وهو صنف الغلاة منهم، وهؤلاء لا ينتحلون مذهب السلف ولا يصوبونه ولا يجوزونه، وهذا هو شأن غلاة أهل البدع كالجهمية وأئمة المعتزلة، ومن تكلم في هذا الباب على طريق التبع من الشيعة وغيرهم، وإنما يخص ذكر الجهمية والمعتزلة لأنهم أخص من تكلم في هذا الباب ..

فهذا الصنف: ليس من شعارهم انتحال مذهب السلف، ولا تصويبه ولا تجويزه.

الثاني: وهم جمهور المتأخرين من المتكلمين الذين انتسبوا للأئمة في الفقه، وهؤلاء يعلمون أن مذهبهم مخالف لمذهب السلف، ولكنهم يجوزون في هذا الباب -أعني: في باب الأسماء والصفات- طريقتهم التي اتخذها أصحابهم المتكلمون، واتخذها من وافقهم من الفقهاء، ويجوزون في نفس الأمر الطريقة التي ظنوا أنها هي طريقة السلف، فترى أن الأشعري يثبت جملةً من الصفات ويتأول جملةً منها، وأصحابه في الجملة على هذا المنهج، وإن كانوا يختلفون معه في قدر ما يثبت وقدر ما يتأول، ولكنهم يرون أن السلف كانوا مفوضين في هذا الباب، وبخاصة ما يتعلق بمحل التأويل عندهم، أي: أن الصفات التي يصحح الأشعرية أنها ثابتة لله حقيقة يرون أن السلف كذلك كانوا يثبتونها حقيقة كالعلم والسمع والبصر.

وإذا جاء القول فيما تتأوله الأشعرية كالصفات الفعلية عند جميع الأشعرية، أو كالصفات الخبرية عند متأخريهم قالوا: إن السلف في هذا الباب كانوا يفوضون ويرون أنه يصح في هذا النوع إما التفويض -ويقولون: إنه مذهب للسلف- وإما التأويل.

وموجب هذا التجويز عند الأشاعرة أنهم اعتقدوا عدم ثبوت الصفات الفعلية في نفس الأمر، أو الصفات الخبرية عند متأخريهم بعد طبقة أبي المعالي الجويني، فلما اعتقدوا انتفاء الصفة في نفس الأمر أصبحوا بين حالين: إما أن السياق القرآني فيها يثبت على ظاهره أي: بلا إثبات معنى؛ ولهذا يقولون: وقد كان السلف يجرونها على ظاهرها.

ولكن لفظ الظاهر -كما يقرر شيخ الإسلام رحمه الله في كتبه- صار لفظاً فيه إجمال.

فالقصد: أنهم يصفون مذهب السلف فيما يدخلون فيه التأويل بأنه مذهب تفويض في هذا النوع.

ثم هم يرون أن هذا التفويض ليس واجباً وإنما هو جائز، وإذا كان جائزاً فمعناه أنه يجوز في هذا النوع من الصفات التأويل والتفويض؛ ولهذا انتهى المذهب الأشعري إلى صيغة فيها توفيق -باعتبار رأيهم- بين مذهبهم ومذهب السلف؛ لأنه لم يكن من شعارهم في الأصل عدم تجويز مذهب السلف كما كان شأن الجهمية والمعتزلة؛ لأن إمامهم كان ينتسب لأهل السنة.

وهذا من باب التناقض الذي وقع فيه الأشاعرة، حيث إنهم جوزوا طريقتهم، وجوزوا التفويض الذي نسبوه للسلف، وقد كان مبنى الطريقة التي انتحلوها في الصفات الفعلية التي أطبق عليها جميع الأشعرية مبني على مسألة تعارض العقل والنقل.

وغلطهم من جهة أخرى: أن علماء الأشاعرة إذا تكلموا في مذهب السلف قرروا أن مذهب السلف كان هو التفويض، وعن هذا التقرير الذي ذكره متكلمة الأشعرية ذهبت طائفة من فقهاء المذاهب الأربعة إلى أن مذهب السلف في الصفات الفعلية على وجه الخصوص -وربما وقع في غيرها- هو التفويض.

وهذه النسبة -أي: نسبة التفويض إلى السلف- نسبة حادثة، وقد كان المعتزلة الأوائل يعلمون أن مذهب الأئمة الذي عارضهم، وحصلت بسببه المناظرة بينهم وبين السلف كما في زمن الإمام أحمد وغيره أنه لم يكن تفويضاً، وإنما كان النزاع في ثبوت صفات الله أو عدم ثبوتها، أي: هل أن الرب متصف بالصفات أو ليس متصفاً بالصفات.

فهذا الوهم الأشعري الذي فيه نوع تلطف مع مذهب السلف هو الذي أوجب -كما يقرر شيخ الإسلام رحمه الله - خطأ كثير من فضلاء الفقهاء؛ لأنهم رأوا أن كثيراً من الأشعرية في كتبهم لا يطعنون على السلف، وإن كانوا يقررون مخالفتهم، ولكنهم يفرضون في هذا الباب صحة هذا القول أو هذا القول، وهذا نقيده في مسألة الصفات.

وإذا قيل هذا فهذا ليس حكماً على جميع أعيان الأشعرية، بل هو حكم مجمل، أي: هذا هو محصل المذهب في الجملة، وإلا فإن بعض علماء الأشاعرة كـ أبي الفتح الشهرستاني في بعض كتبه، ومحمد بن عمر الرازي في بعض كتبه، وأبي المعالي الجويني في بعض كتبه يبينون أن طريقتهم تختلف مع طريقة السلف في نفس الأمر، وأنه يتعذر الجمع بين الطريقتين، ولكن هؤلاء لا يلتزمون هذا القول، بمعنى أنهم يقررونه تارة ويقررون نقيضه تارة أخرى.

إذاً: المخالفون للسلف في باب الصفات في موقفهم من مذهب السلف على صنفين:

الأول: لا ينتحلون مذهب السلف ولا يصوبونه ولا يجوزونه، بل يرونه باطلاً وتشبيهاً وضلالاً، وهذا هو شأن الجهمية والمعتزلة.

الثاني: وهو الغالب على الأشعرية، وإن كان بعض أعيان الأشعرية -كما سلف- تارةً ينزعون إلى طريقة الجهمية والمعتزلة، وكذلك الماتريدية؛ فإن طريقتهم مركبة من الصنف الأول والصنف الثاني، فبعض علماء الماتريدية ينزع إلى الصنف الأول فيحاكي طريقة الجهمية والمعتزلة في ذم مذهب السلف، وبعض فضلاء -وإذا قلنا فضلاء فباعتبار الغلاة في المذهب - ومقتصدة هؤلاء الماتريدية ينزعون إلى الصنف الثاني.

إذاً الصنف الثاني -وهم الذين يجوزون مذهب السلف- هم أئمة الأشعرية كـ أبي الحسن والقاضي أبي بكر بن الطيب، وأئمة الكلابية وأمثال هؤلاء.

أما متأخرة الأشعرية والماتريدية فإن طريقتهم تنزع إلى الصنف الأول تارة والصنف الآخر تارة.

فهذا موجب هذه المقالة، وهي محصلة على الصنف الثاني، فهم يقولون: أسلم؛ لأنهم ظنوا أن مذهب السلف التفويض، وطريقة الخلف أعلم وأحكم؛ لأن هذه الآيات التي اعتقدوا عدم دلالتها على الصفات اشتغلوا هم -يعنون الخلف من أصحابهم- بتأويلها إلى معان يرونها ويظنونها مناسبةً لله سبحانه وتعالى، أي: مناسبة في التأويل لكلام الله سبحانه وتعالى، كقولهم في الاستواء مثلاً: الاستواء فعل فعله بالعرش صار به مستوياً.

وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا) قالوا: ينزل أمره أو تنزل رحمته أو ينزل ملك من ملائكته.

فمثل هذا التأويل هو الذي قصدوا فيه أن الخلف الذين تكلموا به أعلم وأحكم؛ من جهة أنهم صرفوا اللفظ إلى معنىً مناسب، في حين أن السلف سكتوا عن تعيين هذا المعنى المناسب، ويرون أن السلف والخلف من أصحابهم يتفقون على عدم ثبوت الصفات في نفس الأمر.

وهذا غلط شديد من علماء الأشاعرة على السلف، فإن السلف رحمهم الله لم يكونوا من أهل التفويض، بل طريقة التفويض طريقة حادثة بعد انقراض عصر القرون الثلاثة الفاضلة، وهي طريقة متناقضة في العقل كما سيأتي التنبيه إليه، ولكونها متناقضة -أعني: طريقة التفويض- في العقل فضلاً عن بطلانها في الشرع لم يستعملها أئمة المعتزلة فضلاً عن أئمة السلف.

<<  <  ج: ص:  >  >>