للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأعمال التي تكفّر بها الكبائر

ما هي الأمور التي قد تكفر بها الكبائر؟

الحسنات الماحية، ويرادُ بها الأعمال الصالحة: كالصلاة، والجهاد، والحج ..

وأمثال ذلك.

أما الإجماع الذي حكاه ابن عبد البر في التمهيد وغيره، حيث قال: "أجمع أهل العلم على أن المراد بتكفير الصلاة والحج وأمثالها أنها تكفر الصغائر".

فهذا الإجماع إذا أريد به أن الذي يطرد تكفيره بالأعمال الصالحة كالصلاة وغيرها هو الصغائر ..

فهو إجماعٌ صحيح.

أما إذا أريد به أن الأعمال الصالحة كالصلاة وغيرها لا يمكن أن تكفر كبيرة من الكبائر ..

فهذا الجزم غير صحيح.

أليس الله سبحانه وتعالى يغفر الكبيرة للعبد وإن لم يتُب منها إنما بمحض رحمته وسعة فضله؟

إذاً: من باب أولى إذا اقترن بها سببٌ من العبد وهو أعمالٌ صالحة.

وقد تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلام لا يفقه في اللسان العربي إلا على مراد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) فإذا جاء البيت رجلٌ صالح في جمهور أمره، أي: هو على التمسك بالسنة والشريعة والحدود وما إلى ذلك، ولكن عرضت له كبيرة، ثم حقق الحج تحقيقاً فاضلاً، وتقرب إلى الله رغباً ورهباً، فهل يمكن أن يقال: أجمع أهل السنة والجماعة على أن هذا يوافي ربه بكبيرته ما لم يتب منها، وأن الحج لا يمكن أن يكفرها؟

لا يمكن هذا الجزم، بل هو تكلف وقدر من الزيادة في الجزم بأحكام الله سبحانه وتعالى، وبأحكام نبيه صلى الله عليه وسلم.

ومن المعلوم أن عمرو بن العاص -كما ثبت في الصحيح من حديث عبد الرحمن بن شماسة - لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم مبايعاً على الإسلام، وبسط يده لمبايعة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (فقبضتُ يدي.

فقال النبي: ما لك يا عمرو؟ قال: أردتُ أن أشترط.

قال: تشترط ماذا؟ قلتُ: أشترط أن يغفر لي) ومن الواضح أن عمراً رضي الله عنه لم يكن يتكلم عن الصغائر؛ لأنه لم يكن في قاموس الجاهليين صغائر، بل كان يتكلم عن الجرائم ..

والكبائر الموبقات، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عمرو! أما علمت أن الإسلام يهدم -وفي رواية: يجُب- ما كان قبله، وأن الحج يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها) فمن الذي يستطيع أن يقول: الحج لا يمكن أن يكفر كبيرة؟

وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخمس كما في الصحيح: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم ...) وهذا هو قاعدة في القرآن، أليس الله يقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:١١٤] فبأي حكم وبأي قضاء وبأي حجة يقال: هذا فقط في الصغائر؟! بل فضل الله سبحانه وتعالى واسع.

وهذه أسبابٌ شرعية تدفع غضب الرب، والتوبة ليست إلا سبباً من الأسباب الشرعية.

وكذلك من الأسباب الشرعية: تعظيم الشخص لحرمات الله ولشرعه، فهذا السبب قد يدفع ويسقط عقوبة الكبائر والموافاة بها.

فالسلف يقولون: الذي يطّرد تكفير الكبائر به هو التوبة، أي: من تاب من كبيرة تاب الله عليه، أما القول بأن الحسنات يطرد التكفير بها، بمعنى أن من صلى الصلوات الخمس أو صام رمضان أو حج البيت تكفر كبائره ولا يحتاج إلى توبة فهذا القول ما قاله أحد من السلف، وحكاية الإجماع على هذا النفي صحيحة.

لكن الذي أراد شيخ الإسلام رحمه الله إثباته -وهو ظاهر النصوص النبوية والقرآنية- هو: أن الأعمال الصالحة الكبرى -كأركان الإسلام، والجهاد، والهجرة- قد تكفر ما هو من الكبائر، وإن كان لا يلزم الاطراد كما يلزم في التوبة.

وبهذا يكون الفرق بين القول بأن التوبة مكفرة، وبين القول بأن: الحسنات مكفرة، هو أن التوبة تكفر اطراداً، فكل من تاب تاب الله عليه، أما الأعمال الصالحة فإن إطلاق القول بتكفيرها للكبائر أو عدم تكفيرها ليس بصحيح، بل الصواب أن يقال: إن الأعمال الصالحة ولا سيما الشرائع الكبرى -كالصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والهجرة وأمثالها- قد تكفر ما هو من الكبائر.

وهذا بحسب تحقيقها وبحسب حال صاحب الكبيرة.

ففرقٌ بين من أدى الحج أداءً يسيراً ونقص منه قدراً كثيراً، وهو عليه جرائر من الكبائر، وبين من أدى الحج على التحقيق وليس عليه إلا أفرادٌ من الكبائر فعلها على تخوف.

إذاً: لا نقول: إن الأعمال الصالحة ولا سيما الكبرى تكفر الكبائر، بل نقول: إنها قد تكفر ما هو من الكبائر.

فإن قيل: متى نعلم هذا؟

قيل: لا يلزم أن نعلم، الذي يعلم الله سبحانه وتعالى.

فإن قال قائل: إنه يريد أن يعلم هل يتوب أو لا يتوب؟

قيل: التوبة واجبة في الحالين، أي: إذا قيل: إنها قد تكفر فهذا لا يعني إسقاط التوبة، فمع هذا التقرير إلا إنه يقال: إن التوبة واجبة.

فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا حديث في الصحيح عن أبي هريرة - قال: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارةٌ لما بينهما إذا اُجتُنِبَت الكبائر) فأخرج الكبائر.

قيل: إنما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم هنا التكفير الاطرادي وليس العارض، والذي ذكرناه في تكفير الأعمال الصالحة للكبائر إنما هو العارض.

فقوله: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما ...) يعني الاطراد.

إذاً: الأعمال الصالحة إذا أريد اطراد تكفيرها فهي تكفر الصغائر، وإذا أريد العروض بحسب فضل الله وحكمته وعدله فإنها قد تكفر ما هو من الكبائر، ولا يلزم من هذا أن يكون تكفيرها مطرداً.

وهنا أنبه: إلى أن الحكاية عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يقول: إن الأعمال الصالحة كالصلاة تكفر الكبائر كما تكفرها التوبة على الإطلاق ..

غلطٌ عليه، وعدمُ فقهٍ لقوله، وهذا لا شك أنه مخالف للإجماع.

وإنما الصواب: أن هذه قاعدة الله أعلم بما يترتب على العباد، وهذا كله يؤمن به على عدل الله وفضله ورحمته، وإلا فالله يقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:١١٤] والحسنات هنا الكبار والسيئات هي الكبار، وإن دخلت فيها الصغائر فإن الكبائر ليس أولى منها بالدخول.

ثم إن هذا القول فيه توسيع على المسلمين، وتحبيب لهم بهذه الشرائع والقيام بها.

ومما يشار إليه هنا: أن هذه الشرائع لها فضل عظيم عند الله، بل هي من أخص نعمه على العباد، فلا ينبغي أن يهون شأنها وكأنها نوع من الأداء الواجب الذي لا ثمرة له على حال العبد ونفسه في الدنيا والآخرة، بل الله يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:٤٥] وهذا كأنه إشارة إلى أن صاحب المنكر ينقطع بالصلاة عنها، ومن جملة انقطاعه أنه يباعد عنها، وإذا بُوعد عنها فإن هذا وجه من أوجه مغفرة الله سبحانه وتعالى.

وقد بسط شيخ الإسلام هذه المسألة في المجلد السابع والعاشر من الفتاوى، وفي رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام، بل ذكر ما هو أقل من هذا، فقال: "دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب، والمصائب المكفرة قد تكفر أحياناً بعض المقارنات لها من الذنوب .. " إلى غير ذلك.

فمذهبه في هذا مذهب محقق وليس مذهباً غلطاً، وهو لا يعارض قولاً للسلف فضلاً عن كونه يعارض آيةً في كتاب الله سبحانه وتعالى أو حديثاً عن نبيه.

<<  <  ج: ص:  >  >>