للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تعلق الزيادة والنقصان في الإيمان]

يستعمل المتأخرون من أهل السنة في كتبهم عبارة: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهذا التعبير لا بأس به، لكنه ليس فاضلاً، فإنه يوحي -ليس عند العامة بل حتى عند بعض طلبة العلم المبتدئين- أن مورد الزيادة والنقصان هو في الأعمال الظاهرة فقط.

وهذه المسألة فيها نزاع، فإن أبا محمد بن حزم رحمه الله يقرر أن الزيادة والنقصان لا يتعلقان بالتصديق.

فهو يقرر أن الزيادة والنقصان تدخل أعمال القلوب لكونها أعمالاً، فالمحبة ليست واحدة، والرجاء ليس واحداً.

وكذلك تدخل أقوال اللسان، فإن الناس متفاوتون في ذكرهم للشريعة وألفاظها وهديها وتوحيد الله وذكره

إلى غير ذلك.

وكذلك تدخل أعمال الجوارح.

لكنه تأخر فقال: إنه ليس من طريقة أهل السنة أن الزيادة والنقصان متعلقان بالتصديق.

وعلى هذا يكون التصديق واحداً.

وهذا غلطٌ دخل عليه من المرجئة، فإنه بنى هذا على مسألة أن التصديق يقابله التكذيب، وأنه إذا نقص ذهب، فإما أن يصدق الإنسان وإما أن يكذب ..

فما الوسط بينهما؟ وكيف تحصل الزيادة والنقصان في أمرٍ يدور بين الوجود والعدم؟

هذه هي شبهة المرجئة التي دخلت على ابن حزم رحمه الله، ولا وجه لها ألبتة، لا عقلاً ولا شرعاً.

فإنه يقال: إن التصديق -لاشك- يقابله التكذيب، لكن التصديق عند عامة العقلاء يتفاوت؛ فإن من صدق بشيءٍ بناءً على دليلٍ واحد ليس كمن صدق بهذا الشيء بناءً على عشرة أدلة، ومن صدق بشيءٍ بناءً على حديث يرى أنه حسن، وهو متردد في ثبوته، ليس كمن صدق بهذا الشيء وقد بناهُ على حديثٍ متواتر متفق على قبوله.

أي: أن تعدد الأدلة يوجب اختلاف التصديق.

وحتى لو كان الدليل من حيث الثبوت واحداً، كآيةٍ من القرآن؛ فإن نظر المخاطبين والمكلفين فيها يتفاوت تصديقه.

مثلاً: قول الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣] هذه الآية من قرأها من المسلمين يصدق بها، لكن لا يلزم أن كل من قرأها من العلماء والعامة يكونون على درجة واحدة في تصديقهم -هم ليس فيهم مكذب، هذه جملةٌ منتهية؛ لأن من كذب كفر- لأنهم في فقههم لمعناها وتأملهم فيها يتفاوتون، ومن هذا الوجه تفاوت إيمان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم، ومن غيره، كأوجه العمل الظاهر والباطن.

والمقصود من هذا بيان أن التصديق يتفاضل؛ فإن مما لا شك فيه: أن تصديق أبي بكر بالنبوة والقرآن والحديث ليس كتصديق آحاد الفساق، مع أن الفاسق لا يكذِّب.

ولهذا اعتبر الشارع أن تحقيق التصديق تحقيق لتمام التوحيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث عثمان رضي الله عنه: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة).

قد يقول قائل: إن المسلمين يعلمون أنه لا إله إلا الله، إذاً أين وعيد أهل الكبائر؟

هل نقول: إن هذا حديث مطلق قيّدته أحاديث الكبائر؟

الجواب: لا؛ فإن الإطلاق والتقييد لا يستعملان في مثل هذه النصوص، والقول بأنهما يستعملان فيها غلط، ومع الأسف هذا الغلط شائع بين العلماء: المعاصرين والمتقدمين؛ لأنه غلب في تقرير مسائل الفقه والنظر في أدلة الشريعة الفقهية مسألة أن المطلق يحمل على ما يقيده، والعام يحمل على ما يخصصه، والعام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص، فصاروا يستعملون هذا في تقرير فقه نصوص الأصول، فصاروا يقولون: إن هذا مطلقٌ قيّدته أحاديث أهل الكبائر وما يلحقهم من الوعيد.

وهذا الغلط فرع عن الغلط في استعمال الطرق النظرية والحدود والضوابط، وما إلى ذلك من الطرق التي كان المقصود منها تنظيم العلم وليس ذكر حقائق العلم؛ فإن حقائق العلم حقائق تستقرأ من كلام الله ورسوله، وقد ذم الله على أهل الكتاب أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، والبدع إنما نشأت في الإسلام من أخذ بعض النصوص وترك بعضها.

فالصواب: أن الحديث على ظاهره، ومعناه: أنه من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة، فإن عُدِم العلم الذي هو التصديق لم يدخل الجنة، وإن نقص علمه تأخر دخوله.

فإذا قيل: لماذا لم يدخل أصحاب الكبائر الجنة ابتداءً مع أنهم يعلمون أنه لا إله إلا الله؟

قيل: لن نخالف الحديث، هل هم يعلمونها على التمام؟

الجواب: لا؛ لأنهم لو حققوا العلم لحققوا العمل، لكن لما نقص علمهم أمكن تأخرهم.

ومما يدل على هذا أن الصحابة لم يستشكلوا شيئاً عندما حدث الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، مع أن بعض الأعراب أو من أسلم حديثاً أحياناً كانوا يسألون عن بعض المشكلات، ولا يمكن أن يكون الصحابة لم يفقهوا المعنى ومع ذلك يسكتوا، كما يعتذر ويبرر بعض الناس هذا بقول أنس كما في الصحيح: (نهينا أن نسأل رسول الله عن شيء) فإن الصحابة لم ينهوا عن السؤال عما يتحقق به إيمانهم، وإنما نهوا عن الاستفصال في أمرٍ قد سُكت عنه، كما هو في قوله تعالى: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:١٠١]

وأما ما يتحقق به إيمانهم وتصديقهم فلا يجوز شرعاً ولا عقلاً أن ينهى الصحابة أو غيرهم عن السؤال عنه، بل هذا السؤال مما أمر الله تعالى به، كما في قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٤٣]

وكذلك لم يستشكلوا عندما حدث النبي صلى الله عليه وسلم الناس بما قد يظهر على أنه مقابل لحديثه هذا، مثل قوله صلى الله عليه وسلم -كما في حديث ابن مسعود -: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) إنما استشكل رجل فقال: (يا رسول الله! الرجل يحبُ أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله جميل يحبُ الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس) فكان سؤال الرجل عن هذه المسألة اليسيرة يدل على أنه قد فقه المقصود بأصل الحديث، وأنه لا يراد به أن من في قلبه ذرة من كبر يحرم من الجنة على الإطلاق أو أنه يؤبد في النار.

وسبب هذا الفقه أن الصحابة كانوا على قدرٍ من الاستقراء لفقه الإسلام، وهذا هو الذي ينصح طلاب العلم بتتبعه والقصد إليه.

والمقصود من هذا: أن تمام العلم بتمام العمل.

إذاً: من المسائل الأصول في مسمى الإيمان: القول في زيادته ونقصانه، والزيادة والنقصان تقع في مواردهِ الأربعة:

١ - في قول القلب الذي هو تصديقه، وقد خالف في هذا ابن حزم وطائفة من أصحاب أحمد والشافعي، وبعض المنتسبين إلى السنة من المتأخرين، وقولهم مخالف لنص الإمام أحمد وغيره من السلف، بل هو مخالف لظواهر الحقائق الشرعية والعقلية، والتي تدل على أن التصديق يتفاضل.

٢ - في أعمال القلوب، وهذا بيّن؛ فإن محبة المسلمين ورجاءهم لله وخوفهم منه سبحانه وتعالى ليس واحداً.

٣ - في أقوال اللسان وفي أعمال الجوارح على قدرٍ مشهور معروفٍ مدرك بالبديهة.

ومن المسائل الأصول: التلازم بين الظاهر والباطن، ومعناه: أنه إذا عدم الإيمان الباطن عدم الإيمان الظاهر، فمن أظهر شرائع الإسلام أو بعض خصال الإيمان كالصلاة وغيرها ولا باطن معه من الدين فهذا هو المنافق.

إذاً: إذا عدم الباطن عدم الظاهر حقيقةً وليس حالاً، ومعنى: ليس حالاً: أي قد يظهر حالاً كما ظهر من المنافقين الذين يقع لهم صلاة أو زكاة أو حج أو ما إلى ذلك، ومع ذلك قال الله فيهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} [النساء:١٤٥] فهم كفارٌ بالكتاب والسنة والإجماع.

وأما إذا عدم الظاهر فهل يعدم الباطن؟

هذه المسألة فيها تفصيل ليس هذا محله، إلا أن من أسباب الإشكال فيها عند المعاصرين مسألة الحدود، والألفاظ المتأخرة -ككلمة "جنس العمل"- التي بدأت تحاط بها المسائل الكبرى في مسائل أصول الدين.

ويتلخص من هذا أن مسألة مسمى الإيمان تتضمن ثلاثة أصول:

الأصل الأول: أنه قولٌ وعمل.

وهذا ينتج عنه أن الإيمان من حيث المحل أربعةُ أصول:

١ - قول القلب، وهو تصديقه.

٢ - عمل القلب.

٣ - قول اللسان.

٤ - عمل الجوارح.

الأصل الثاني: أنه يزيد وينقص، وهذه اللفظة أفضل من لفظة: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وإن كان تصديق القلب إذا تحقق سمي طاعة، لكن كلمة الطاعة والمعصية لما تأخر أمر الناس صارت تتبادر إلى الأعمال الظاهرة، ولهذا يقال: يزيد وينقص ظاهراً وباطناً.

الأصل الثالث: التلازم بين الظاهر والباطن.

<<  <  ج: ص:  >  >>