للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حكم الاستثناء في الإيمان]

الخلاف في مسألة الاستثناء في الإيمان إذا كان متعلقاً بأصل يخالف قول السلف في الإيمان -أي: في مبدئه، وأنه قول وعمل- فإنه يكون خلافاً في الأصل.

وأما إذا كان على قدر من تعدد المراد -من المرادات الصحيحة- فإنه لا يعد من الأصول.

وتفصيل هذا المعنى: أن من ترك الاستثناء قد يكون مبتدعاً وقد يكون ترك أمراً سائغاً، فإن من ألزم ترك الاستثناء -أي قال: لا بد أن يقول الرجل هو مؤمن، ولا يصح له أن يقول: هو مؤمن إن شاء الله- على معنى أن الإيمان واحدٌ وهو التصديق؛ فإن هذا التفريع تفريع عن بدعة مخالفة لإجماع السلف.

وأما من قال بترك الاستثناء في الإيمان -أي: أن يقول الرجل: هو مؤمن ولا يلزمه أن يقول: إن شاء الله- لأن العلم بأصل الإيمان علم ضروري، وكان الإيمان عنده قولاً وعملاً، فهذا الترك للاستثناء ترك واسع.

إذاً: هذه المسألة قد يتكلم فيها الأعيان فيكون بعضهم مخرجاً قوله على السنة؛ فتكون المسألة ليست من الأصول، وإذا تكلم فيها من خرّج قوله على أصله المخالف لقول السلف في باب الإيمان فإن قوله بدعة.

فإذا قيل: هل قرر السلف رحمهم الله وجهاً واحداً في هذه المسالة؟

فالجواب: أما باعتبار مراداتها فنعم، وأما باعتبار إطلاق اللفظ فإنهم متوسعون في ذلك، فإن طائفة منهم يميلون إلى ذكر الاستثناء، ومعتبرهم في هذا أن الإنسان المسلم المؤمن لا يجزم لنفسه بالتمام؛ فإن الإيمان المطلق هو فعل الواجبات وترك المحرمات، وهذا لا أحد يجزم باستتمامه، ومن هنا استحبوا وأمروا بالاستثناء على هذا الوجه.

ومنهم من أمر بالاستثناء واستحبه وحسنه على معنى أن تركه فيه تزكية، والله يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} [النجم:٣٢]

فهذان الوجهان هما مراد من استحب الاستثناء من السلف وقصد إليه.

وطائفة من السلف رخصوا في الاستثناء وتركه، فإذا أمروا بالاستثناء فعلى هذين المرادين، وإذا رخصوا في الترك فعلى مراد أن أصل الإيمان يصح الجزم به؛ لأن كل مسلم ومؤمن يجزم بأن معه الأصل، وهذا لابد من اليقين فيه، وليس هو من التزكية، بل هو من العلم الواجب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله صدقاً من قلبه)، وقال أيضاً: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله) والجملة جملة حال.

وعلى هذا من ترك الاستثناء على معنى أنه يجزم بأصل إيمانه، وأنه مصدق بالله كافر بالطاغوت، يكون تركه سائغاً.

أما مسألة هل الحكم بهذين الاعتبارين على الوجوب أم على السعة؟

فنقول: إذا ما أراد المتكلم بقوله "هو مؤمن إن شاء الله" ترك التزكية، فهذا ليس من المسائل الواجبة، بل هو من المسائل الواسعة.

أما إذا كان قاصداً لأصل الإيمان فنقول: هناك تفصيل:

فإن كان تعليقه من باب التردد فلا شك أن هذا إبطال للجزم.

وأما إن كان على معنى أنه يجوز في الأمور المحققة ذكر مشيئة الرب فهذا سائغ؛ لأن التعليق بمشيئة الله لا يلزم عنه التردد، والدليل على ذلك قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:٢٧] مع أن دخولهم كان متحققاً مجزوماً به.

وبهذا يتبين أن مدار مسألة الاستثناء على المقاصد؛ فمن كان على باب من السنة والجماعة ويقول: إن الإيمان قول وعمل؛ فإن مسألة الاستثناء في حقه لا تعد من مسائل الأصول، بل يستثني في مقام ويترك في مقام آخر، ويكون ذلك بحسب مقصده، فإذا استثنى تركاً للتزكية فهذا مما يسوغ، وإذا ترك الاستثناء على معنى أنه جازم بأصل الإيمان فهذا أيضاً مما يسوغ، وإذا استثنى على معنى أنه يعلق أمره بمشيئة الرب النافذة في كل شيء -حتى الأشياء المحققة- فإن هذا أيضاً مما يسوغ.

وبهذا التفصيل يفهم سبب تعدد أجوبة أئمة السنة والجماعة عن هذه المسألة.

<<  <  ج: ص:  >  >>