للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[السبب في اختلاف السلف في مسألة الاستثناء في الإيمان]

إن قيل: فلم كان جملة من السلف ينزعون إلى الاستثناء ويؤكدون شأنه، وجملة من الأئمة ينزعون إلى تركه؟

قيل: هذا من حكمتهم وفقههم؛ فإن من نزع من السلف إلى تأكيد مسألة الاستثناء فإن مراده بذلك الرد على المرجئة، الذين جمهورهم يحرمون الاستثناء ويمنعونه؛ لكون الإيمان عندهم واحداً بالتصديق ونحوه ..

ولهذا إذا قيل: صاحب السنة من بعدهم ينزع إلى أي الوجهين في أجوبة السلف؟

قيل: ينزع إلى جميعها بحسب المقاصد والأحوال؛ ولهذا قال الله للمؤمنين: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة:١٣٦] ولم يلزم من ذلك أن يقولوا: إن شاء الله، والعبد يقول: لا إله إلا الله ولا يقول: إن شاء الله.

فالقول بأن الاستثناء واجب في الإيمان ليس بصحيح، ومن نُقل عنه الوجوب من السلف فإنه معلق بمقصد من المقاصد الشرعية، وأما أن أحداً من السلف يوجب الاستثناء في سائر المقامات وباعتبار سائر المقاصد فهذا لا يصح عن واحد من السلف، ومن حكى عن أحد من السلف إيجاب الاستثناء في سائر المقامات، وباعتبار سائر المقاصد فهذا غلط عليه، وإن كان هذا قد حكاه بعض المتأخرين من أهل العلم.

بل الصواب: أن جوابات السلف هنا هي على مادة التنوع، وليس التضاد أو الخلاف اللفظي؛ لأن الخلاف اللفظي معناه أن لا فرق بين حقيقة الأقوال، وخلاف التنوع: أن يكون لكل معنى، وليس بين المعاني تعارض.

أي: أن هذا يقصد معنىً فيستثني، ويقصد الآخر معنى آخر فيترك الاستثناء، فمن استثنى قصد ترك التزكية أو قصد أن الإيمان قول وعمل وهو لم يستتم التمام في القول، ومن ترك الاستثناء قصد أن أصل الإيمان مما يجزم به، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الجارية: (أعتقها؛ فإنها مؤمنة)، ولم يقل صلى الله عليه وسلم: إن شاء الله؛ مع أن الجارية لم يستفض إيمانها، حتى كان معاوية بن الحكم متردداً في شأنها

إلى أمثال ذلك.

<<  <  ج: ص:  >  >>