للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[كلام أبي عبيد عن مسألة الاستثناء في الإيمان وعرضه لأقوال السلف]

[قال أبو عبيد: حدثنا يحيى بن سعيد عن أبي الأشهب عن الحسن قال: قال رجل عند ابن مسعود: أنا مؤمن.

فقال ابن مسعود: أفأنت من أهل الجنة؟ فقال: أرجو.

فقال ابن مسعود: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى؟.

قال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان بن سعيد عن الأعمش عن أبي وائل قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: بينا نحن نسير إذ لقينا ركباً فقلنا: من أنتم؟ فقالوا: نحن المؤمنون! فقال: أولا قالوا: إنا من أهل الجنة؟!.

قال أبو عبيد: حدثنا يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر كلاهما عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن إبراهيم عن علقمة قال: قال رجل عند عبد الله: أنا مؤمن! فقال عبد الله: فقل: إني في الجنة! ولكن آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله.

قال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن محل بن محرز قال: قال لي إبراهيم: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله.

قال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن معمر عن ابن وطاس عن أبيه قال: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله.

قال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن عن حماد بن زيد عن يحيى بن عتيق عن محمد بن سيرين قال: إذا قيل لك أمؤمن أنت؟ فقل: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} [البقرة:١٣٦]

قال أبو عبيد: حدثنا جرير بن عبد الحميد عن منصور عن إبراهيم قال: قال رجل لـ علقمة: أمؤمن أنت؟ فقال: أرجو إن شاء الله.

قال أبو عبيد: ولهذا كان يأخذ سفيان ومن وافقه الاستثناء فيه، وإنما كراهيتهم عندنا أن يبسوا الشهادة بالإيمان مخافة ما أعلمتكم في الباب الأول من التزكية والاستكمال عند الله، وأما على أحكام الدنيا فإنهم يسمون أهل الملة جميعاً مؤمنين، لأن ولايتهم وذبائحهم وشهاداتهم ومناكحتهم وجميع سنتهم إنما هي على الإيمان، ولهذا كان الأوزاعي يرى الاستثناء وتركه جميعاً واسعين.

قال أبو عبيد: حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي قال: من قال: أنا مؤمن فحسن، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله فحسن، لقول الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:٢٧] وقد علم أنهم داخلون.

وهذا عندي وجه حديث عبد الله حين أتاه صاحب معاذ فقال: ألم تعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف: مؤمن ومنافق وكافر، فمن أيهم كنت؟ قال: من المؤمنين.

إنما نراه أراد أني كنت من أهل هذا الدين لا من الآخرين، فأما الشهادة بها عند الله فإنه كان عندنا أعلم بالله وأتقى له من أن يريده، فكيف يكون ذلك والله يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى} [النجم:٣٢]!

والشاهد: (على ما نظن) أنه كان قبل هذا لا يقول: أنا مؤمن على تزكية ولا على غيرها، ولا نراه أنه كان ينكره على قائله بأي وجه كان، إنما كان يقول: آمنت بالله وكتبه ورسله، لا يزيد على هذا اللفظ، وهو الذي كان أخذ به إبراهيم وطاوس وابن سيرين، ثم أجاب عبد الله إلى أن قال: أنا مؤمن؛ فإن كان الأصل محفوظاً عنه فهو عندي على ما أعلمتك، وقد رأيت يحيى بن سعيد ينكره ويطعن في إسناده؛ لأن أصحاب عبد الله على خلافه].

هذا يبين أن ابن مسعود وأصحابه يميلون إلى الاستثناء ويؤكدون شأنه، ولكن أجوبتهم تدور على المعاني السابقة: أنهم يتركون التزكية ..

أنهم يقصدون أن الإيمان قول وعمل، وأن الإنسان لا يجزم لنفسه باستمامهما، ولهذا قال للرجل: (أفأنت من أهل الجنة؟) يعني: إن المؤمن المطلق يكون من أهل الجنة، وهذا مما لا يجزم بتحققه، وهكذا نقل بعد ذلك عن أصحاب ابن مسعود كـ علقمة وغيره.

وهنا مسألة في مسألة الاستثناء، وهي فرق لطيف فات بعض المتأخرين ممن علق على هذه المسألة؛ فقد تبين أن من أوجه السلف في الاستثناء أنهم يستثنون باعتبار ترك التزكية، وباعتبار أن الإيمان قول وعمل، وأن الإنسان لا يجزم بهذا التحقق.

<<  <  ج: ص:  >  >>