للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الأدلة الشرعية والعقلية على أن الإيمان يزيد وينقص]

[وكذلك صناعات الناس، لو أن قوماً ابتنوا حائطاً ..

وكان بعضهم في تأسيسه، وآخر قد نصفه، وثالث قد قارب الفراغ منه، قيل لهم جميعاً: بناة، وهم متباينون في بنائهم.

وكذلك لو أن قوماً أمروا بدخول دار، فدخلها أحدهم، فلما تعتب الباب أقام مكانه وجاوزه الآخر بخطوات، ومضى الثالث إلى وسطها، قيل لهم جميعاً: داخلون، وبعضهم فيها أكثر مدحاً من بعض.

فهذا الكلام المعقول عند العرب السائر فيهم، فكذلك المذهب في الإيمان، إنما هو دخول في الدين، قال الله تبارك وتعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [النصر:١ - ٣] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:٢٠٨] فالسلم الإسلام، وقوله: (كافة) معناها عند العرب الإحاطة بالشيء.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس) فصارت الخمس كلها هي الملة التي سماها الله سلماً مفروضاً.

فوجدنا أعمال البر وصناعات الأيدي ودخول المساكن كلها تشهد على اجتماع الاسم وتفاضل الدرجات فيها، هذا في التشبيه والنظر، مع ما احتججنا به من الكتاب والسنة، فهكذا الإيمان هو درجات ومنازل، وإن كان سمى أهله اسماً واحداً وإنما هو عمل من أعمال تعبّد الله به عباده وفرضه على جوارحهم، وجعل أصله في معرفة القلب، ثم جعل المنطق شاهداً عليه، ثم الأعمال مصدقة له، وإنما أعطى الله كل جارحة عملاً لم يعطه الأخرى، فعمل القلب الاعتقاد، وعمل اللسان القول، وعمل اليد التناول، وعمل الرجل المشي، وكلها يجمعها اسم العمل، فالإيمان على هذا التناول إنما هو كله مبني على العمل، من أوله إلى آخره، إلا أنه يتفاضل في الدرجات على ما وصفنا.

وزعم من خالفنا أن القول دون العمل، فهذا عندنا متناقض، لأنه إذا جعله قولاً فقد أقر أنه عمل، وهو لا يدري بما أعلمتك من العلة الموهومة عند العرب في تسمية أفعال الجوارح عملا.

وتصديقه في تأويل الكتاب في عمل القلب واللسان، قول الله في القلب: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:١٠٦] وقال: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:٤] وقال: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحج:٣٥] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجسد لمضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد، وهي القلب) وإذا كان القلب مطمئناً مرة، ويصغى أخرى، ويوجل ثالثة، ثم يكون منه الصلاح والفساد، فأي عمل أكثر من هذا، ثم بين ما ذكرنا قوله: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة:٨] فهذا ما في عمل القلب.

وأما عمل اللسان فقوله: {يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} [النساء:١٠٨] فذكر القول ثم سماه عملاً، ثم قال: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس:٤١] هل كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم إلا دعاؤه إياهم إلى الله، وردهم عليه قوله بالتكذيب، وقد أسماها هاهنا عملاً؟ وقال في موضع ثالث: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:٥١] * {يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات:٥٢] إلى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} [الصافات:٦١] فهل يكون التصديق إلا بالقول، وقد جعل صاحبها هاهنا عاملاً؟! ثم قال: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً} [سبأ:١٣] فأكثر ما يعرف الناس من الشكر أنه الحمد والثناء باللسان، وإن كانت المكافأة قد تدعى شكراً.

فكل هذا الذي تأولنا إنما هو على ظاهر القرآن وما وجدنا أهل العلم يتأولونه، والله أعلم بما أراد، إلا أن هذا هو المستفيض في كلام العرب غير المدفوع، فتسميتهم الكلام عملاً، من ذلك أن يقال: لقد عمل فلان اليوم عملاً كثيراً، إذا نطق بحق وأقام الشهادة، ونحو هذا، وكذلك إن أسمع رجلٌ صاحبه مكروهاً، قيل: قد عمل به الفاقرة، وفعل به الأفاعيل، ونحوه من القول، فسموه عملاً، وهو لم يزده على المنطق.

ومنه الحديث المأثور: (من عد كلامه من عمله، قلّ كلامه إلا فيما ينفعه).

فوجدنا تأويل القرآن، وآثار النبي صلى الله عليه وسلم، وما مضت عليه العلماء، وصحة النظر، كلها تصدق أهل السنة في الإيمان، فيبقى القول الآخر، فأي شيء يتبع بعد هذه الحجج الأربع؟!

وقد يلزم أهل هذا الرأي ممن يدعي أن المتكلم بالإيمان مستكمل له، من التبعة ما هو أشد مما ذكرنا، وذلك فيما قص علينا من نبأ إبليس في السجود لآدم، فإنه قال: {إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ} [ص:٧٤] فجعله الله بالاستكبار كافراً وهو مقر به غير جاحد له، ألا تسمع: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:١٢] وقوله: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:٣٩] فهذا الآن مقر بأن الله ربه، وأثبت القدر أيضاً في قوله: (أَغْوَيْتَنِي) وقد تأول بعضهم قوله: (وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ) أنه كان كافراً قبل ذلك! ولا وجه لهذا عندي، لأنه لو كان كافراً قبل أن يؤمر بالسجود لما كان في عداد الملائكة، ولا كان عاصياً إذا لم يكن ممن أمر بالسجود.

وينبغي في هذا القول أن يكون إبليس قد عاد إلى الإيمان بعد الكفر لقوله: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:٣٩] وقوله: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:١٢] فهل يجوز لمن يعرف الله وكتابه وما جاء من عنده أن يثبت الإيمان لإبليس اليوم؟!].

هذا هو ما سبق: وهو أن زيادة الإيمان دليلها آيات في القرآن، وأيضاً دليلها الضرورة الشرعية والضرورة العقلية، فإن تماثل بني آدم في فعل ما شرعي أو غير شرعي تماثل ممتنع، ولهذا لا يوجد فعل من الأفعال، إلا وأهله القاصدون إليه يتفاضلون فيه، وهذا هو مقصود المصنف لما قال: "وكذلك صناعات الناس".

أي: أن من قصدوا إلى صناعة شيء لابد أن يتفاضلوا، ولهذا يكون هذا في مبدأ الصناعة، وهذا في وسطها، وهذا في منتهاها، وهذا تقدم على هذا، وهذا أتقن من هذا ..

إلى غير ذلك.

فالقول: بأن الإيمان لا يتفاضل قول ممتنع في العقل ..

ممتنع في الخارج، ولهذا كان من فقه السلف أنهم ألزموا الذين لا يقولون بتفاضل الإيمان، وزيادته ونقصانه بلازم يلزمهم، وإن كان عند التحقيق ليس مذهباً لهم، قالوا: يلزم من هذا القول أن يكون إيمان جبريل كإيمان آحاد الناس، وأن يكون إيمان أبي بكر كإيمان الفساق ..

وهذا فعلاً لازم، يدل على بطلان هذا المذهب، لأن من يقول: إن الإيمان واحد، يلزمه أن إيمان أبي بكر كإيمان الحجاج بن يوسف، أو أمثال هؤلاء ممن اشتهر بشيء من القتل أو الفجور أو الفسوق.

فهذا القول يعلم بديهةً بضرورة العقل أنه ممتنع، وعلى هذا يكون أصل هذا القول ممتنعاً عقلاً وشرعاً.

<<  <  ج: ص:  >  >>