للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أنواع العلم]

هنا سؤالان:-

السؤال الأول: أليس العلم يعد إيماناً في كتاب الله سبحانه وتعالى؟

أليس قد عظم الله شأن العلم به، وقال صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله، دخل الجنة) وفي قول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [محمد:١٩]

والجواب: أن العلم ينقسم إلى نوعين:

النوع الأول: علم إدراك.

النوع الثاني: وعلم قبول.

والذي عظمه الشارع ووصف المؤمنين به هو علم القبول، وهذا هو الذي وصِف أهل الإيمان به في قول الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} [آل عمران:١٨] فالمقصود بالعلم هنا علم القبول لا علم الإدراك، وهو العلم الإيماني.

وأما علم الإدراك فإنه يقع لغير المسلمين، وهو التصور المحض للشيء، والذي لا يتبعه إذعان وقبول، وهو المذكور عن الكفار في مثل قول الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:١٤٦] فهذه معرفة إدراك لا معرفة قبول، وهذا هو المذكور في قول الله تعالى عن أغلظ الكفار كفراً وهو فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:١٤]

وبهذا يتبين ضرورة اعتبار الأسماء في كتاب الله بسياقاتها.

وقد يقول قائل -مثلاً-: إن الجهل ليس عذراً في مسألة التكفير؛ لأن الله كفّر الكفار وقد وصفهم بالجهل في آيات كثيرة في كتابه، فقد وصفهم بأنهم أهل جاهلية

إلى غير ذلك، مما يدل على أن علمهم ليس بلازم، وأن الجهل ليس عذراً في التكفير، وليس مانعاً من التكفير.

وهناك أيضاً من ينظر على العكس في هذه المسألة، فيقول: إن الله لم يكفر الكفار إلا بعدما قام عليهم العلم، ولهذا وصفهم بقوله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:١٤٦]

فنقول: ألا يصح أن يقال عن القوم الذين قال الله عنهم: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:١٤٦] أو قال عنهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:١٤] فأثبت لهم شديداً من قدر العلم الإدراكي أن هؤلاء في كتاب الله هم أهل الجهل والجاهلية؟

أليس الله يقول: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:١٧٩] واليهود يدخلون في هذا السياق؟

إذاً: لهم قلوب لا يفقهون بها، ومع ذلك هم في السياق الآخر يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.

إذاً: الله سبحانه وتعالى وصف المشركين بالجهل في مقام، ووصفهم بالإدراك في مقام آخر، فهو سبحانه وتعالى قد نفى عنهم تحقيق علم القبول، أما علم الإدراك فهو موجود، وإلا لو كان علم الإدراك غير موجود فإن الحجة لن تقوم عليهم، وإذا كان الرسل يبعثون، ولا يقوم على المكلفين العلم الإدراكي، فما معنى أن الرسل بعثت؟! وما معنى أن الحجة قامت؟!

ولهذا لما بعث الله الرسل قامت بهم الحجة؛ لأن المخاطبين حصلوا علم الإدراك، وهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من الأنبياء من نبي إلا قد أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر) أي: ما مثله يجب أن يؤمن البشر به.

وهذه المسألة -وهي اختلاف مورد الأسماء في كتاب الله- يأتي إن شاء الله ذكرها في كتاب شرح حديث الافتراق؛ لأنه يقع عنها كثير من الاختلاف.

إذاً: العلم الإدراكي يقع للكفار، وأما علم القبول فهو العلم الإيماني.

<<  <  ج: ص:  >  >>