للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حكم التفقه والاجتهاد في هذا الباب]

هذا الباب وأمثاله لا يدخله التفقه ويقال فيه بالاجتهاد، فالناظر إلى دلائل الإسلام يجد أن منها ما هو تقرير لكليات من الأصول العلمية، وهذا لا يقال فيه بالتفقه القابل للاجتهاد والظن، واختلاف أقوال المجتهدين وما إلى ذلك، وإنما يوقف فيه على الصريح من الخبر، فما جاء عن الله أو صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يقال به، ويكون الإيمان به واجباً ولازماً.

وأما ما كان من المعاني محتملاً؛ فإنه لا ينبغي القصد إلى الجزم به إثباتاً أو نفياً، وإن كان من يثبته أو ينفيه يمكنه أن يستدل على إثباته أو نفيه بنوع من الاستدلال، أي: أن الإثبات والنفي في هذه المقامات لا يكون إلا بدليل صريح، وأما إذا تعذر الدليل الصريح فإنه لا يصار إلى الإثبات أو النفي، فإن المقام هنا ليس مقام الأفعال التكليفية، فأنت إذا جئت إلى مسائل الصلاة والزكاة والحج أو إلى مسائل المعاملات والشهادات ونحوها؛ وجدت هذا النوع من المسائل أحياناً يستدل على مسائله بوجه من الاستدلال ليس لازماً، وإنما هو وجه ممكن محتمل، ومع ذلك فإن هذا النوع من الاستدلال إذا لم يمكن إلا هو فإنه يكون صحيحاً؛ لأن المسألة لا بد فيها من حكم؛ لأنها مسألة تكليفية، فمثلاً: لحم الإبل هل ينقض الوضوء أو لا ينقض الوضوء؟

هذه المسألة ليس فيها نصوص صريحة قطعية، وإنما فيها نصوص محتملة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر بن سمرة لما قيل له: (يا رسول الله! أنتوضأ من لحم الغنم؟ قال: لا.

قيل: أنتوضأ من لحم الإبل؟ قال: نعم) وفي رواية أخرى: (إن شئت)، فهل قوله صلى الله عليه وسلم: (نعم).

أراد به الوجوب أم الاستحباب؟

هذا محل نزاع بين الفقهاء، فذهب الشافعي ومالك وأبو حنيفة إلى عدم نقض الوضوء بلحم الإبل، وذهب الإمام أحمد رحمه الله في أصح الروايتين عنه وهي مذهبه إلى أن لحم الإبل ناقض للوضوء.

فالاستدلال بهذا الحديث ليس استدلالاً قطعياً، ولذلك لا بد من الترجيح، ولا يمكن لقائل أن يقول: إن هذه المسألة لا نقول فيها بشيء، لأنه ليس عندنا دليل قاطع فيها، فمسائل التكليف يعتبر فيها التفقه والاجتهاد أخذاً بالعمومات أو الخصوصيات ترجيحاً أو جمعاً، أو غير ذلك من طرق الاستدلال والترجيح.

لكن في باب أصول الإيمان والخبريات المحضة، كالإيمان باليوم الآخر ومسائله مما يكون في القبر من عذاب أو نعيم، أو ما بين يدي يوم القيامة كأحاديث عذاب القبر وأشراط الساعة، هذا لا يقال فيه بالتفقه والاجتهاد، بل يوقف فيه على صريح النص، فإذا ثبت صريح النص قيل به، وإذا لم يثبت أو لم يكن صريحاً لزم السكوت.

وعلى طالب العلم أن يفقه الأمور المتعلقة بما يكون بين يدي قيام الساعة، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حدث بأحاديث كثيرة أن بين يدي الساعة فتناً، وذكر جملةً من هذه الفتن على التفصيل، وذكر جملةً منها على الإجمال.

وهذه الفتن منها ما هو ثابت بالسنة الصحيحة المتفق عليها أو المستفيضة الصحة عند الأئمة، كأحاديث اتفق عليها الشيخان، أو لم يتفقا عليها، ولكنها أحاديث انضبطت صحتها عند أئمة الحديث ..

فهذا قدر.

وثمة أحاديث في الفتن التي تكون بين يدي الساعة فيها أوصاف لبعض الأمصار أو لبعض الأعيان من الناس، أو لبعض الأفعال، أو لبعض الأحوال، وتجد أن هذه الأحاديث ليست من الأحاديث البينة صحتها، بل هي إلى الضعف أقرب، وإن كانت قد تقبل التحسين بوجه ما.

وهنا إشكال: وهو أن بعض السالكين من طلبة العلم أو الباحثين في مسائل أحاديث الفتن يعنون بجبر هذه الأحاديث وتقويتها، كأنهم يبحثون في مسألة فقهية تكليفية، احتيج إلى تقرير هذا الدليل وإلى جبره فيها مع مجموع أدلة أخرى، فيصير تحت هذا التحصيل الجزم بثبوت مثل هذه الفتن، وأشد من ذلك حين يصار إلى تفصيل تحقيقها، فربما استقرئت بعض الحوادث القائمة أو المستشرفة القيام على أنها هي التي حدَّث بها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث كذا وحديث كذا، كاستشراف كثير من الناس لأحاديث المهدي وما يتبعها، وما يقارن خروج المهدي من الأحوال والفتن وما إلى ذلك.

وهذا ليس من الانضباط السليم في المنهج الشرعي العلمي.

وأشد من ذلك حينما تستقرأ الفتن التي بين يدي الساعة من كتب بني إسرائيل التي أحسن ما يقال فيها كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم) فالشارع قد بين أن ما في كتبهم لا يصدق ولا يكذب، وإن قال عليه الصلاة والسلام: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) لكن التحديث ليس هو التصديق وبناء الأحوال أو الأقوال أو الأفعال على مثل هذه النصوص.

هذا فضلاً عن أن مراده صلى الله عليه وسلم بما في كتب أنبيائهم أو المنسوبة إلى أنبيائهم التي دخلها التحريف، وليس مراده صلى الله عليه وسلم بذلك ما كتبه بعض أحبارهم ورهبانهم ورجال الدين عندهم من متأخريهم، فإن كثيراً من هذا الكلام اخترعه وابتدعه بعض متأخري رجال النصرانية واليهودية، وكذبوا على أنبيائهم وعلى أصحابهم المتقدمين في ديانتهم.

فهذا الباب لا بد من ضبطه على هذا الاعتبار، ولا ينبغي لطالب العلم أن ينتظر التفصيل في غير ما صرح النص بتفصيله؛ ولهذا يوقف في هذه الأحاديث على قدرها التي ذكرت من التعبير، وأما ما فوق ذلك فإنه لا يقال فيه لا بإثبات ولا بنفي.

<<  <  ج: ص:  >  >>