للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مناظرة السلف لأهل البدع]

قال الموفق رحمه الله: [وقال محمد بن عبد الرحمن الأدرمي لرجل تكلم ببدعة ودعا الناس إليها: هل علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو لم يعلموها؟ قال: لم يعلموها.

قال: فشيء لم يعلمها هؤلاء أعلمته أنت؟ قال الرجل: فإني أقول: قد علموها.

قال: أفوسعهم أن لا يتكلموا به ولا يدعوا الناس إليه، أم لم يسعهم؟ قال: بلى وسعهم.

قال: فشيء وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه، لا يسعك أنت؟ فانقطع الرجل.

فقال الخليفة -وكان حاضراً-: لا وسع الله على من لم يسعه ما وسعهم].

هذه مناظرة فاضلة، تندرج تحت قاعدة عامة، ذكرها مالك وغيره من السلف وهي: (أن كل صاحب بدعة فإنه مخصوم بالإجماع)؛ لأن البدعة: هي المخالفة لمذهب السلف، ومذهب السلف هو القول المجمع عليه.

إذاً: يقال لكل صاحب بدعة إن بدعتك هذه مخالفة لإجماع السلف، واتباع السلف واجب؛ لقول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ} [التوبة:١٠٠] إلى آخر الآية.

أما هذه المناظرة فقد رويت عن الدارمي، ورويت عن الإمام أحمد وغيره، ووجه روايتها عن الإمام أحمد، أنه حين ناظر المعتزلة في مسألة خلق القرآن، قال الإمام أحمد لـ ابن أبي دؤاد: "يا ابن أبي دؤاد! القرآن مخلوق -أي: قولكم معشر المعتزلة: القرآن مخلوق- أهذا من الدين أم ليس من الدين؟ " لابد أن ابن أبي دؤاد سوف يقول: من الدين؛ لأنه لو قال: ليس من الدين أسقط قوله.

قال: "من الدين.

قال أحمد: هذا الدين علمه الرسول وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو لم يعلموه؟ قال: علموه.

قال الإمام أحمد: أين هو في كلامهم؟ ".

وهكذا يقال لكل صاحب بدعة، فانقطع ابن أبي دؤاد، وقال: "أقلني يا أبا عبد الله " -هكذا تقول الرواية، وهي إخبارية في الجملة- قال الإمام أحمد: "أقلتك.

فقال ابن أبي دؤاد: لا، ما علموه، فقال الإمام أحمد: دين لم يعلمه النبي والخلفاء جئت لتعلمه أنت؟! " فكان انقطاع ابن أبي دؤاد في الثانية أشد.

ولما كان المجلس الثاني، قال ابن أبي دؤاد للإمام أحمد: "يا أحمد! القرآن ليس مخلوقاً -يعني أهل السنة يقولون: القرآن ليس مخلوقاً- أهذا من الدين؟ قال الإمام أحمد: من الدين.

قال: عرفه النبي والخلفاء أو لم يعرفوه؟ قال الإمام أحمد: عرفوه.

قال: أين هو في كلامهم؟ " أي: هات من السنة النبوية أو من كلام أبي بكر أو عثمان أو علي أو عمر، أنهم قالوا: القرآن ليس مخلوقاً، ليس هناك تصريح عن الرسول بهذه الكلمة: القرآن ليس مخلوقاً؟ ولا يعلم صحابي قالها، لكن هل انقطع الإمام أحمد؟ لا.

ومن هنا تعلم قوة حجة علماء السنة؛ لأنهم على الحق، أما علماء العقل، فقد شُنع عليهم تشنيعات كثيرة، والله يقول في كتابه: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} [الملك:١٠] فالعقل نعمة خلقها الله ليعرف بها الحق لا ليكفر بها الناس، ولهذا قال الكفار عند مآلهم: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} [الملك:١٠] والله يقول: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:١٧٩] ..

إلخ.

والإمام أحمد لما أورد عليه ابن أبي دؤاد هذا الإيراد، أجاب مباشرةً بجواب عقلي مقنع، قال: "اسكتوا نسكت" ومعنى هذا الكلام: أن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أن هذا كلام الله، حيث يقول: (أعوذ بكلمات الله) والله يقول في القرآن: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:٦] ويقول الله في القرآن كثيراً: (أنزله) {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:١]

{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:١] ..

إلخ.

فقال الإمام أحمد: اسكتوا نسكت.

أي: أن جملة المعتزلة، هي إثبات النفي: القرآن مخلوق، وجملة السلف: القرآن ليس مخلوق، جملة نفي.

والإمام أحمد يقول: إنكم قلتم جملة إثبات ليس لها أصل في القرآن، فإذا كان ليس لها أصل في القرآن جئنا نحن لننفيها، والرسول ما نفاها؛ لأنه لم يتكلم بها أحد في زمانه، فلما جاء قوم وقالوا: بدعة.

لزم صاحب السنة والحق أن ينفي، ولهذا قال: "اسكتوا نسكت" أي: إن لم تقولوا: القرآن مخلوق.

لا نحتاج أن نقول: ليس مخلوقاً، كما أن الصحابة لم يحتاجوا ذلك.

فهذا من فقه الأئمة في مناظراتهم، الذي يجب أن يستفيده طالب العلم؛ لبيان الحق، ودحض شبه أهل البدع.

قال الموفق رحمه الله: [وهكذا من لم يسعه ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، والأئمة من بعدهم، والراسخين في العلم، من تلاوة آيات الصفات، وقراءة أخبارها، وإمرارها كما جاءت، فلا وسع الله عليه].

هذا التعليق من المصنف هو تبع لما سبق ذكره في كلامه، وما نقله عن الشافعي والأوزاعي والإمام أحمد في تقرير طريقة السلف، وأنهم يقفون على قدر ما ورد به الخبر في كلام الله أو كلام نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا إشارة من وجه آخر إلى الرد على أهل التأويل من المتكلمين، الذين تأولوا آيات الصفات على غير ظاهرها، وعلى غير معناها المعروف من كلام الصحابة والأئمة، فاستحقوا أن يُدعى عليهم بالضيق؛ لأنه لم يسعهم طريق السلف الصالح.

<<  <  ج: ص:  >  >>