للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[إثبات صفة العلو لله تعالى]

قال الموفق رحمه الله: [وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك).

وقال للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء.

قال: أعتقها فإنها مؤمنة) رواه مالك بن أنس ومسلم وغيرهما من الأئمة].

أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا الله ...) فهو على جهة الدعاء، وقد رواه أبو داود، والحديث مُتَكَلَّم فيه؛ لكن من أهل العلم من قوَّاه، وهذا الحديث والآيتان مِن قبلِه وما ذكره بعده كحديث معاوية بن الحكم، كلها تدل على إثبات علو الرب سبحانه.

وقد قال جملة من علماء السنة كبعض أصحاب الشافعي وبعض أصحاب أحمد كـ ابن القيم وشيخ الإسلام ابن تيمية: إن دلائل العلو في القرآن أكثر من ألف دليل.

وهناك طريقة عند علماء السنة في الاستدلال على الصفات، وهي طريقة التنوع، فالعلو عندهم يثبت بجملة من الأدلة، منها:

ذكره سبحانه وتعالى أنه في السماء، كقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦].

ذكره سبحانه وتعالى لفوقيته، في مثل قوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:٥٠].

ذكره سبحانه وتعالى لعروج الأشياء إليه، وذكره لصعود الأشياء إليه: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ} [المعارج:٤]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:١٠].

ذكره سبحانه وتعالى للنزول كنزول الملائكة من عنده، وإنزاله للكتب، والأمر، والرحمة وغيرها، كقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:٤]، {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} [إبراهيم:١].

فجملة هذه الأدلة بتنوعها تدل دلالة قاطعة مطردة على إثبات العلو لله تعالى، وعلوه سبحانه وتعالى من أخص صفاته، وقد أجمع عليه السلف وكثير من الخلف، حتى من انتسب إلى بعض الطرق الكلامية كـ أبي الحسن الأشعري، وكـ عبد الله بن سعيد بن كلاب، فإن هذين وأمثالهما من المقاربين للسنة من المتكلمين يثبتون العلو، وأما نفي الأشاعرة المتأخرين للعلو فإن هذا مذهب دخل عليهم من المعتزلة، وقد صنف ابن كلاب كتابه: الصفات، ورد فيه على المعتزلة في مسألة العلو بالعقل والنقل.

ومسألة العلو حكى الإجماع عليها جملة من الأئمة، حتى إن شيخ الإسلام ذكر في درء التعارض هذا الإجماع عن بضعة عشر إماماً من كبار أئمة أهل السنة والجماعة، فهي مسألة متواترة صريحة في كلام الله ورسوله، فضلاً عن كون علوه سبحانه وتعالى يثبت بالعقل، ويثبت بدليل الفطرة، فإن الله فطر الخلق على أنه سبحانه وتعالى في السماء.

ويراد بكونه سبحانه وتعالى (في السماء) أي: أنه على السماء، وأما ما قد يتبادر إلى ذهن بعض الجهال أنه في سماء خلقها، كما تقول: إن الملائكة في السماء، فهذا مما ينزه عنه الرب سبحانه وتعالى، فإنه قد قال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:٢٥٥]، وقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران:١٣٣].

إذاً قوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦] أي: على السماء، أو يراد بالسماء العلو، أي: من في العلو، وليس وسط السماء.

أما قصة حديث الجارية، وهو حديث معاوية بن الحكم السلمي فقد رواه مسلم في صحيحه، في سياق فيه طول، وفي آخره: قال معاوية: (وكانت لي جارية ترعى غنماً لي قِبَل أُحُد والجوانية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسَف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظَّم ذلك علي، فقلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها، قال: فأتيته بها، فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة).

وهذا الدليل صريح في أنه سبحانه وتعالى في السماء، وصريح في جواز أن يسأل عنه سبحانه وتعالى بـ (أين)، وهذا ما منعه أهل البدع، قالوا: ولا يجوز أن يسأل عن الرب بـ (أين)، فيرد عليهم: إن أعلم الخلق به، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، قال للجارية وهي على قدر يسير من العلم: (أين الله؟ قالت: في السماء).

<<  <  ج: ص:  >  >>