للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أسباب الخلاف في العذر بالجهل]

وهنا مسألة وهي: استعمال الأسماء في القرآن، ودلالتها على المقصود، ويتفرع عنها: هل الجهل حجة أم ليس بحجة؟

الجواب: هذا فيه تفصيل، وكما يقرر ابن تيمية رحمه الله: "أن جمهور الأسماء أصبحت عند المتأخرين مجملة، وصار يراد بها أكثر من معنى".

من يقول: إن الجهل ليس عذراً أو ما إلى ذلك.

ما دليله؟

الجواب: دليله أن ينظر في مواضع من كتاب الله فيجد أن الله وصف الكفار الذين توعدهم بالنار والعذاب والخلود في النار، مع أنه وصفهم بالجهل، كقول الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:١٠]، فيقول بعض من يقرر هذه المسائل: إن هؤلاء وافوا ربهم بالكفر وعلى هذا الشرك، فدخلوا النار، مما يدل على أنهم ما عقلوا ولا انضبط سمعهم، فتكون نتيجة مثل هذا النظر في كلام الله: أن الكفار حكم الله عليهم بالخلود في النار مع أنهم جاهلون، وليسوا على عقل وسمع حقيقي أو تام للقرآن.

وهذا غلط في الفهم، وليس الذي يراد بآيات الكتاب هذا المعنى.

ونجد في الطرف الآخر من المسألة من يبالغ في تقرير مسألة الحجة، وأن الكفر لا بد له من كذا وكذا، ثم يضع شروطاً متكلفة في ثبوت الكفر، ويستدل في مقابل القول الأول بأن الله وصف الكفار بالجهل وعدم العقل، وأن ثمة آيات من كتاب الله فيها وصف الكفار بالمعرفة التي تقابل الجهل، كقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:١٤٦]، وقال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:١٤].

وهنا يقع نوع من التردد عند من يجمع المقامين، إلا أن من ينظر إلى المسألة من زاوية واحدة ولا يتصور السياق الثاني.

إذا قيل له: ما حكم أهل الفترة؟

يقول: في النار.

فيقال: لكن ما بلغتهم الحجة؟

فيقول: لا، الحجة الفطرة السابقة، والعقل، ولا يلزم العلم.

فيقال: متى تقوم الحجة على الإنسان؟

فيقول: بمجرد أن يسمع آية من القرآن ولا يسلم بها فإنه تقوم عليه بها الحجة.

فيقال: هل يلزم المعنى؟

فيقول: لا يلزم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد أن يسمع العرب منه آية من القرآن أو دعوة واحدة كان يكفيهم سواء عقلوا أو لا.

فيقال: هذا تخرص، ما معنى أن القرآن حجة على الناس؟ وما معنى أنه بينات من الهدى والفرقان؟ وأن العرب كانوا يدركون جملة أن الدعوة تدعو إلى توحيد الله؛ ولذا قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [ص:٥]؟

فيقال جواباً لهذا: هم كانوا مدركين ومتصورين له على التمام، فهم قبل البعثة كانوا إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، فكان هدف النبوة أو مقصودها واضحاً أمامهم، دعك من كونهم لم يتصوروا جملة الشرائع وما إلى ذلك، لكن مقصود الديانة الأول الذي به يحصل الدخول في الإسلام كان مقصوداً واضحاً، وهو أن الله هو الواحد المعبود، وهم يفهمون هذا ويطبقونه أحياناً إذا ركبوا في الفلك.

يقول ابن المنذر: "إن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب العرب بالإسلام ولم يسأل من عقل ومن لم يعقل، وكان يقاتل الكفار وهو لم يتأكد هل قامت عليهم الحجة أو لم تقم عليهم الحجة".

ومسألة قيام الحجة ليس معناها أنك تتكلم مع كل شخص وحده: هل قامت عليه الحجة أو لم تقم؟ فالمعنى الذي يراد في سائر النبوات والشرائع: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:٥٩]، فهذا هو المقصود ذكره، وهو متحقق عند جملة الكفار الذين بعث فيهم الرسل، ولكنهم كذبوا به ولم يأتمروا بأمره.

إذاً ..

مسألة العلم أصل في ثبوت الإيمان، وكما أن العلم يكون أصلاً في ثبوت الإيمان فإنه لا بد من اعتباره في ثبوت الكفر، كما ينبغي أن تعلم أن الأسماء في كتاب الله فيها تنوع بحسب السياق، ولا يجوز قطع الآيات عن سياقها، وكذلك لا بد من اعتبار القدر المراد في مراد الله ورسوله بالأسماء وبين مراد أهل الاصطلاح الذي قد يكون وجهاً في اللغة لكن اللغة تجيزه ولا توجبه، مثل الجهل ماذا يراد به في كتاب الله؟

<<  <  ج: ص:  >  >>