للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مواضع الاتفاق والافتراق بين طوائف المسلمين في مسائل الاعتقاد]

لقد بدأ المصنف بذكر مسألة الصفات، وهي فرع عن مسألة الربوبية؛ لأهميتها وحصول النزاع فيها، ولهذا فإن العلماء يقولون: إن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات، رغم أن توحيد الأسماء والصفات هو من جملة توحيد الربوبية، والذي درج عليه كثير من أهل العلم قبل ذكر هذا التقسيم، أنهم يقسمون التوحيد إلى: توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد الطلب والقصد، ويجعلون توحيد المعرفة هو توحيد الربوبية، وباب الأسماء والصفات متضمن له.

وسواء قسموا التوحيد إلى قسمين أو إلى ثلاثة أقسام، فهذا كله اصطلاح لا مشاحة فيه، إذا صحت المعاني واتفقت، فمثل هذه المصطلحات ليست من السنة اللازمة التي يجب على جميع المسلمين الالتزام بها، وإنما الذي يجب على المسلمين أن يلتزموا به هو: تحقيق التوحيد.

وعلى كل حال، فجملة توحيد الربوبية ليس فيه نزاع بين المسلمين، وإن كانوا يختلفون في تحقيقها بحسب قربهم من السنة.

وكذلك جملة توحيد الألوهية، وهو إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، ليس فيه خلاف بين فرق المسلمين، -أعني: الخلاف النظري- فلا يوجد هناك طائفة من طوائف المسلمين تقرر حقائق الشرك.

بل مناط هذا التوحيد الذي مقصوده إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، وأن من صرف عبادة لغير الله فقد كفر وأشرك - هو قدر مجمع عليه بين سائر طوائف المسلمين: من أهل السنة، والمتكلمين؛ معتزلتهم وأشعريتهم

إلى غير ذلك.

وإن كان هذا الكلام لا يلزم منه أن الطوائف الخارجة عن السنة والجماعة تكون محققة لهذا المناط، بل ثمة صور من الشرك تقع عند جملة من الطوائف: كغالية الشيعة، وغالية الصوفية، فإن بعضهم يقع في الشرك الأكبر، ولكن من حيث المناط النظري ليس بين المسلمين نزاع في توحيد الألوهية.

وقد قال كثير من أهل العلم أن المتكلمين -ولا سيما المعتزلة والأشاعرة الغالية في علم الكلام- لا يهتمون بذكر مسألة توحيد الألوهية، وهناك من يقول: إنهم لا يعرفونها، وهذا فيه تجاوز، بل توحيد الألوهية معروف عند المعتزلة والأشاعرة، لكن عندهم تقصير في تقريره وتحقيقه، وفي بيان أنه أول الواجبات ..

هذا كله متحقق، ولكنهم موافقون في أصله، فإن عدم ذكر هذا التوحيد في كتبهم فليس معناه أنهم لا يقولون به ولا يعرفونه؛ لأن إفراد الله بالعبادة مستقر عند عامة طوائف المسلمين، وإن كان هذا الاستقرار تدخل عليه هفوات إلى حد الشرك الأكبر عند قوم من غالية الشيعة والمتصوفة، أما جماهيرهم وعامتهم فإنهم يثبتون أصل التوحيد ويحققونه من جهة كونه أصلاً.

وخلاصة القول: أن توحيد الألوهية من حيث الأصل مُسلم به عند سائر المسلمين، ولا أحد من المسلمين يقول: إن صرف العبادة لغير الله صحيح، أو مما يؤذن فيه، أو مما يسوغ.

وإن كان أهل البدع قد فتحوا المجال للأقوال والأفعال الشركية بتوسعهم في باب التأويل، ولا سيما عند الطائفتين اللتين سبق ذكرهما.

وأما ما يتعلق بباب الأسماء والصفات، فإن المسلمين اختلفوا في مناطه اختلافاً معروفاً، وإن كان أصل بابه مجمعاً عليه بين المسلمين.

فإن قيل: فما الفرق بين أصل بابه وبين مناطه؟

قيل: المراد بأصل باب الأسماء والصفات هو: أن الله سبحانه وتعالى مستحق للكمال، منزه عن النقص، وهذا القدر مجمع عليه بين سائر طوائف المسلمين، ولا أحد من المسلمين يقول: إن الله موصوف بشيء من النقص؛ لا معتزلة، ولا أشاعرة، ولا ماتريدية؛ فهو قدر مجمع عليه، ولا يقول بمعارض هذا الأصل إلا زنديق كافر؛ فلو قال قائل: إن الله يوصف بما هو نقص، أو قال: إن الله ليس مستحقاً للكمال والتمام، فإنه لا يمكن أن يكون مسلماً ينتسب لطائفة من طوائف المسلمين، حتى ولو كانت طائفة بدعية.

ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقد اتفق المسلمون على أن الله سبحانه مستحق للكمال منزه عن النقص، وإنما اختلفوا في تحقيق المناط، ومعنى اختلافهم في تحقيق المناط أن المسلمين اختلفت طوائفهم: ما هو الكمال؟ وما هو النقص؟

فالذي عليه الصحابة رضي الله عنه والأئمة من بعدهم أن تحقيق الكمال هو بإثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأن ينفى عنه سبحانه وتعالى كل نقص، مما صرح الله بذكره في كتابه أو لم يصرح بذكره، فهذا هو الكمال عند أهل السنة والجماعة.

وذهبت المعتزلة إلى أن الكمال: هو في نفي الصفات.

وذهبت الأشاعرة إلى أن الكمال في نفي صفات الأفعال التي يسمونها: حلول الحوادث

إلى غير ذلك من الطرق التي ابتدعت، وحصل بها شر، وفتنة، وبلاء، وغلط في مسائل أصول الدين عند المسلمين.

ولكن مع ما يقرر من غلط هذه الطوائف، وخروجها عن السنة والجماعة إلى أقوال محدثة منكرة -كثير منها يصل إلى حد الكفر من حيث هو قول، وإن كان القائل به لا يلزم أن يكون كافراً- فإن أصل هذا الباب كان متفقاً عليه بين المسلمين، وإنما حصل الخلاف بدخول مادة التأويل.

<<  <  ج: ص:  >  >>