للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[شبهة التركيب]

قال المصنف رحمه الله: [وإن قال نفاة الصفات: إثبات العلم والقدرة والإرادة يستلزم تعدد الصفات، وهذا تركيب ممتنع].

هذه هي شبة التركيب، وقد سبق أن أشرت إلى أن أصول الأدلة الكلية عند هؤلاء النفاة فيما زعموه من العقل هي: دليل الأعراض، ودليل التركيب، ودليل التخصيص، أما دليل التخصيص فهو دليل مختصر لم يستعمله إلا قوم من المتأخرين، والمدار في الجملة على دليل التركيب ودليل الأعراض، والغالب على المتفلسفة المصرحين بالفلسفة هو التكلم بدليل التركيب، والغالب على المتكلمين التكلم بدليل الأعراض.

وهذان الدليلان: وإن كان ثمة فرقاً بينهما إلا أن بينهما قدراً من الاشتراك، ولا سيما من حيث النتائج، فإن حاصل دليل الأعرض: أن نفاة الصفات من المتكلمين قالوا: إن هذه الصفات كالعلم ونحوها أعراض، وإن العرض لا يقوم إلا بجسم، فيلزم من إثبات الصفات التشبيه، ومن هنا نفوا الصفات.

وهذه ليست حقيقة لغوية ولا حقيقة عقلية، إنما هي حقيقة فلسفية، اصطلاح فلسفي يتضمن معنىً فلسفياً، والمتكلمون الذين استعملوا هذا انقسموا إلى فريقين: فجمهورهم قالوا: لا نثبت الصفات حتى لا نقع في التجسيم، ومن هنا نفت المعتزلة قيام الصفات بالذات حتى لا يقعوا في التجسيم.

ولما جاء متكلمة الصفاتية - ابن كلاب، وأبو منصور الماتريدي، وأبو الحسن الأشعري - استعملوا هذا الدليل -الذي هو دليل الأعراض- مع أن ابن كلاب وأمثاله يثبتون الحياة، والعلم، والسمع، والبصر؛ بل إن ابن كلاب يثبت الغضب والرضا، ولكنه يجعله واحداً، والأشعري يتأوله على الإرادة، وهذا من الفروق بين ابن كلاب والأشعري.

فالمقصود: أن هؤلاء المنتسبين للسنة والجماعة من المتكلمين أثبتوا قدراً من الصفات، مع أنهم يعتمدون في بناء هذه الطريقة على دليل الأعراض، لكنهم فسروه بتفسير آخر، فقالوا: إن العرض ليس هو الصفة مطلقاً؛ بل إن العرض -الذي يقوم بالأجسام، وإذا تحقق في شيء كان هذا الشيء جسماً- هو ما يعرض ويزول، ولا يبقى زمانين.

ومن هنا تأول هؤلاء المتكلمون من الصفاتية ما يسمى بصفات الأفعال التي يسميها هؤلاء: حلول الحوادث، فتأولوا مسألة النزول، والمجيء، والإتيان؛ لأن هذه عندهم هي الأعراض.

أما الحياة والعلم ونحوها فقالوا: لا نسمي الحياة والعلم عرضاً؛ لأن العرض هو ما يعرض ويزول، والعلم قائم لازم، بخلاف النزول فإنه يعرض ويزول.

وهذا -كما هو معلوم- من باب التحكم، وهناك قوم آخرون من المتكلمين، كـ محمد بن كرام السجستاني، يؤمن بدليل الأعراض، ويؤمن بأن الأعراض على معنى المعتزلة أنها هي الصفات، ولكنه صار أمام أحد نتيجتين: إما أن ينفي الصفات حتى يسلم من مسألة التجسيم، وإما أن يقر بالصفات، وعلى فهمه وإدراكه وظنه سوف يقر بالتجسيم، فاختار ابن كرام الخيار الثاني، وقال: نثبت الصفات ونقول: إن الله جسم، ولكنه ليس كالأجسام ..

تعالى الله عن هذه الإطلاقات التي لم ينزل الله بها من سلطان!

إذاً: مسألة الأعراض هي في الغالب من استعمال المتكلمين على هذا الوجه، فبعضهم التزم نتيجتها وأقر بها، وبعضهم نفى الصفات حتى لا يقع في نتيجتها وهي التجسيم.

ثم يأتي بعد ذلك دليل التركيب، وكأن الأمر تسلسل في النتيجة، فإذا قال القائل: إن الصفات أعراض، والأعراض لا تقوم إلا بجسم، فقال قائل -كما قاله ابن كرام -: إن المخرج أن نقر بالتجسيم، مع القول بأنه جسم لا كالأجسام، فإن أهل التركيب -أي: الذين يقررون مسألة التركيب- يقولون: إن الصفات أعراض، والعرض لا يقوم إلا بجسم، ولا يسوغ لك أن تقول: إنه جسم؛ لأن الأجسام مركبة، فهل تلتزم أن تقول -أي: يا من تقر بالتجسيم-: إنه مركب؟ سيكون الجواب عندهم: لا ..

قالوا: لأن المركب لا يكون إلا ممكناً، والممكن ليس هو واجب الوجود.

إذاً: مسألة التجسيم التزمها قوم، وهم الكرامية ومن قبلهم من المجسمة الذين هم أشد التزاماً لها.

لكن مسألة التركيب إذا قيل: إن الجسم مركب، والمركب ممكن، فلا يمكن لأحد أن يقول بالتزام الإمكان.

فهذه هي شبهة التركيب، وهي تنتهي إلى قدر مشترك مع شبهة الأعراض.

وهذا كله سفسطة، فإن هذه المقدمات ليست مقدمات معلومة لا بالشرع، ولا بالحقائق العقلية المبنية على الألسنة الآدمية، سواء العرب أو غير العرب، ولا بالحقائق العقلية المجردة.

<<  <  ج: ص:  >  >>