للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[إلزام نفاة الصفات بإثبات موجود متصف بصفات تميزه عن غيره]

قال المصنف رحمه الله: [وهذا بابٌ مطرد، فإن كل واحد من النفاة لما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من الصفات، لا ينفي شيئاً فراراً مما هو محذور إلا وقد أثبت ما يلزمه فيه نظير ما فر منه].

بل يلزمه شر منه؛ لأنه يفر من تشبيهه بالموجود الحي فيشبهه بالموجود غير الحي، ومعلوم أن الموجود الحي أكمل من غير الحي، ويفر من تشبيهه بالموجود فيشبهه بالمعدوم، ولا شك أن الموجود أكمل من المعدوم، ويفر من تشبيهه بالمعدوم الممكن فيشبهه بالمعدوم الممتنع ..

وهكذا.

قال رحمه الله: [فلا بد له في آخر الأمر من أن يُثبت موجوداً واجباً قديماً متصفاً بصفات تميزه عن غيره، ولا يكون فيها مماثلاً لخلقه].

هذا هو الذي أراد أن يصل إليه المصنف، بمعنى: أنه لا يمكن أن يقدر في العقل إلا أحد حقيقتين:

إما إثبات واجب الوجود المتصف بصفات الكمال، المنزه عن صفات النقص.

وإما النفي لواجب الوجود.

أما إثبات وجوده واجباً غنياً عما سواه، مع نفي الصفات عنه، فهذا من باب التناقض؛ لأن معنى كونه واجباً غنياً عما سواه هو: أن باب الصفات متضمن في هذا الوجوب، فإن من وجوبه سبحانه وتعالى ومن غناه عما سواه: أنه متصف بصفات الكمال، والأفعال اللائقة به وحده سبحانه وتعالى، فكونه سبحانه يخلق ما يشاء ويفعل ما يشاء، هو من معاني أنه غني عما سواه، فهؤلاء النفاة إذا قيل لهم: ألستم تؤمنون بأن الله هو واجب الوجود؟ قالوا: بلى.

ألستم تؤمنون بأنه غني عما سواه؟ قالوا: بلى.

وقوله: (واجب الوجود) أي: أن من معاني وجوب وجوده اتصافه بصفات الكمال، ومن معاني وجوب وجوده وأنه غني عما سواه: اتصافه بهذه الأفعال ..

وهكذا.

فيقول المصنف: إن من يقول: إنه واجب الوجود، غني عما سواه، ثم ينفي الصفات أو الأفعال، فهذا متناقض، فتكون النتيجة أن العقل لا يمكن أن يقدر إلا أحد أمرين:

الأمر الأول: أن يقال: إنه سبحانه وتعالى هو الأول الآخر، الظاهر الباطن، واجب الوجود، الغني عما سواه، المتصف بصفات الكمال، وأفعال الكمال، الذي ليس كمثله شيء، لا شيء مخلوق قائم موجود، ولا شيء يقدر وجوده من المخلوقات، ولا شيء يمكن وجوده؛ بل ولا شيء من الموجودات يمكن تخيله أو تصوره أو حتى فرضه في الذهن؛ فإن كلمة (ليس كمثله شيء) تعم كل شيء موجود مشاهد، وكل شيء موجود ولكنه ليس مشاهداً، وكل شيء يمكن وجوده، وكل شيء يتخيل وجوده، ولذلك لا يمكن للعباد أن يعلموا أو أن يحيطوا بكيفيات الله سبحانه وتعالى وأفعاله وصفاته، قال الإمام مالك وغيره من الأئمة: "الكيف غير معقول"، أي: أن العقل يمتنع عليه إدراكه؛ لأن الله تعالى وتقدس سبحانه وتعالى لا يُحاط به علماً.

الأمر الثاني: أن ينفي وجود الله سبحانه وتعالى، تبعاً لنفي الصفات.

إذاً: لا يمكن للعقل أن يقدر إلا أحد أمرين: إما الإثبات وإما النفي، وكأن هذا هو ما أشار إليه المصنف عندما قال سابقاً: (إن باب الصفات هو من باب الخبر)، والخبر إما أن يكون حقيقة خبرية متصلة غير منقوصة، وإما أن يكون نفياً ..

إما أن تثبت بالتصديق، وإما تنفي بالتكذيب.

<<  <  ج: ص:  >  >>