للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نفي الرؤية لا يتضمن كمالاً لله تعالى

قال المصنف رحمه الله: [ولم ينف مجرد الرؤية؛ لأن المعدوم لا يرى، وليس في كونه لا يرى مدح، إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحاً].

يذكر المصنف هنا أن الآية إذا فسرت كما تفسرها المعتزلة بأن قوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) أي: لا تراه الأبصار، فإن هذا ليس من باب المدح؛ بل إنه من باب النفي المجرد، وقد عُلم بالعقل فضلاً عن الشرع أن النفي المجرد -وهو النفي المحض- ليس مدحاً، وليس كمالاً؛ لأنه لو كان المقصود بقوله: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) أي: لا تراه الأبصار؛ لعدم إمكان رؤيته ليس إلا؛ فإن الأشياء المعدومة والأشياء الممتنعة تتصف بهذه الصفة في كونها لا ترى، أو لا يمكن أن ترى.

قال رحمه الله: [وإنما المدح في كونه لا يحاط به وإن رئي، كما أن لا يحاط به وإن علم].

وهذا وجه اختصاصه عن خلقه، ولك أن تقول: هذا وجه اختصاصه عن غيره.

وبهذا يُعلم أن طريقة الأئمة هي لتحقيق الكمال، فإن ما أثبتوه له في هذا المقام يتحقق به اختصاصه عن غيره؛ سواء كان هذا الغير مخلوقاً، أو شيئاً ممكناً، أو شيئاً معدوماً، ولكنه ليس من باب الممكن، بل من باب الممتنع، فإن غير الله سبحانه وتعالى إما أن تمتنع رؤيته؛ كالمعدوم والممتنع أيضاً، فإن رؤيته تكون ممتنعة، وإما أن تكون رؤيته غير ممتنعة عند وجوده؛ كالأشياء التي تُرى وتكون مدركة، وهي الأشياء القائمة، وإما أنه يرى ولا يدرك.

فإن قال قائل: إن في مخلوقات الله سبحانه وتعالى ما يرى ولا يدرك، كالسماء، فإن كل بني آدم يرون السماء، ومع ذلك لم يدرك أحد سائر أنحائها واتساعها وامتدادها، وما إلى ذلك، فكيف قيل: إن من اختصاصه عن خلقه أنه يرى ولا يدرك، مع أن في أعيان مخلوقاته القائمة المشاهدة أنها ترى ولا تدرك؟

فالجواب: أن يقال: إن كل مخلوق يُرى ولا يدرك فإنه ممكن الإدراك، بخلاف الباري سبحانه وتعالى، فإن الإدراك له ممتنع، فإن السماء لا يدركها أحد، ولكن هذا الإدراك غير ممتنع، فإنه من الممكن أن يخلق الله سبحانه وتعالى مخلوقاً يدرك أبعاد السماء، وهذا غير مستحيل في حقه سبحانه وتعالى، فإدراك المخلوقات إدراك ممكن، وإن لم يكن حاصلاً في كثير من الأحيان، بخلاف إدراك الخالق سبحانه وتعالى من جهة أن من أبصره أدركه، فإن هذا إدراك ممتنع.

إذاً: قوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) لامتناع إدراكها، ولعدم إمكان إدراكها له، بخلاف قولنا: لا تدرك الأبصار السماء، فإن ذلك لعدم ثبوت الإدراك، وإن كان الإدراك في نفس الأمر ممكناً.

قال رحمه الله: [فكما أنه إذا علم لا يحاط به علماً، فكذلك إذا رئي لا يحاط به رؤية].

وعليه فقد يقول قائل: إن في مخلوقات الله ما يعلم ولا يحاط به، كالروح مثلاً، فإننا نعلم منها شيئاً، ولكننا لا نحيط بها علماً.

فيقال: إن الإحاطة بالروح علماً ممكن، وإن لم يحصل، ولم يقدر الله أنه يحصل لأحد، ولكنه ممكن، بخلاف الإحاطة بالباري سبحانه وتعالى، فإنه ممتنع.

قال المصنف رحمه الله: [فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته ما يكون مدحاً وصفة كمال، وكان ذلك دليلاً على إثبات الرؤية لا على نفيها، لكنه دليل على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة، وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها].

قوله: (مع عدم الإحاطة)، أي: مع عدم الإدراك، وهذا هو معنى الإدراك (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) أي: لا تحيط به، وهذا معنى معروف في الأذهان، وذلك كقولك: رأيتُ السماء، وأنت لم تدركها.

وقوله: (وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها):

هو الحق، وهو أيضاً الكمال عقلاً وشرعاً، أما إذا نفيت الرؤية فلا يكون كمالاً، وإذا أُثبتت الرؤية مع إثبات الإحاطة والإدراك، فإن هذا أيضاً لا يكون كمالاً، إنما الكمال هو إثبات الرؤية مع نفي الإدراك والإحاطة.

<<  <  ج: ص:  >  >>