للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الكلام في التوحيد والصفات من باب الخبر وفي الشرع والقدر من باب الطلب]

قال المصنف رحمه الله: [فالكلام في باب التوحيد والصفات هو من باب الخبر الدائر بين النفي والإثبات، والكلام في الشرع والقدر هو من باب الطلب والإرادة الدائر بين الإرادة والمحبة، وبين الكراهة والبغض نفياً وإثباتاً].

قسم اللغويون والبلاغيون الكلام إلى عدة تقاسيم، ومن تلك التقاسيم: أن الكلام ينقسم إلى قسمين: خبر، وإنشاء.

والمقصود بالخبر: ما احتمل التصديق والتكذيب، والنفي والإثبات.

فالمصنف هنا يقول: إن الكلام في باب التوحيد والصفات هو من باب الخبر، والكلام في الشرع والقدر من باب الإنشاء والطلب الذي هو الأمر والنهي، ويتعلق بالإرادة والمحبة.

وهناك في النظر وتراتيب العلوم -ويذكره المنطقيون- ما يتعلق بصيغ الدلالات الثلاث، وهي:

١ - دلالة المطابقة.

٢ - دلالة التضمُّن.

٣ - دلالة التلازم.

فإذا قيل: الكلام في التوحيد والصفات من باب الخبر، فمعناه: أن توحيد الله سبحانه وتعالى هو قول أخبر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام به، فيجب تصديقه ويحرُم تكذيبه؛ كقول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] فإنه هذا نص خبري يجب تصديقه ..

وهَلُمَّ جَرَّا.

وهل الأخبار الشرعية لا تتعلق بمسألة الطلب والأمر؟

الجواب: لا.

بل كل ما كان من باب الخبر فإنه من وجه آخر من باب الطلب، وكل ما كان في الشريعة من باب الطلب فهو من وجه آخر من باب الخبر.

إذاً: فكل حقيقة شرعية فإنه يتعلق بها باب الخبر وباب الطلب، ففي الصفات قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] يتعلق به الخبر من جهة أن هذا نص خبري يجب تصديقه، ويتعلق به الطلب من جهة أن الله أمر العباد أن يؤمنوا بالقرآن، وهذا منه.

وهكذا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا) كما في الصحيحين وغيرهما.

وكذلك كل أمر شرعي فإنه يجب اتباعه من باب الطلب والإرادة والأمر، وهو خبري من جهة أنه خبر رباني -أي: في القرآن- أو خبر نبوي.

وأيضاً مثل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:١٨٣] فهذا من باب الطلب، ومن باب الخبر أيضاً؛ لأن هذه آية من القرآن، فيجب التصديق بأنها آية من كلام الله ..

وغير ذلك كثير في الكتاب والسنة.

إذاً: هناك تلازم بين الخبر الشرعي وبين الأمر الشرعي، بمعنى: أن ما كان خبراً فإنه أمر من جهة، وما كان أمراً في الشريعة فإنه يجب التصديق به من جهة أخرى، باعتباره كتاباً من كلام الله، أو باعتباره سنة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد يقول قائل: ما دام أن ثمة تلازماً في النتيجة، فلماذا ذكر المصنف هذا التقسيم وقال: (فالكلام في التوحيد والصفات هو من باب الخبر ..

والكلام في الشرع والقدر هو من باب الطلب)؟

والجواب: أن هذا باعتبار الابتداء، فالتوحيد -من حيث الابتداء- باب خبري، والأمر والشرع باب طلبي، وأما إذا اعتبرت اللوازم والنتائج المتسلسلة، فإن الطلب من جهة هو طلب، ومن جهة أخرى يجب التصديق به لأنه نص من كلام الله أو كلام رسوله.

- معنى (الخبر) في قولنا: (التوحيد باب خبري):

وقولنا: (التوحيد باب خبري) هل معنى (خبري) أي: الحكم الذي ثبت بالنص وحده، أم الذي ثبت بالعقل؟

نقول: إن المصنف رحمه الله في كتبه -ولا سيما في كتابه درء التعارض- قد نبه إلى أن كثيراً من أصحاب علم الكلام زعموا أن القرآن ليس فيه دلائل عقلية، بل هو دلائل خبرية مبنية على صدق المخبر.

قال شيخ الإسلام: "وهذا قول من لم يقدر القرآن حق قدره".

ومعنى هذا: أن الأخبار التي في القرآن في التوحيد والصفات ليست مخاطبات من جهة التصديق فحسب، بل هي مخاطبات عقلية وخبرية معاً.

فمثلاً: قول الله سبحانه وتعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] هذا نص خبري، لكن هناك نصوص في القرآن هي أخبار ولكنها مخاطبة للعقل أيضاً؛ كقول الله سبحانه وتعالى مثلاً: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:٧٨] فهذه مخاطبة للعقول.

إذاً: قد ذكر في القرآن الكريم دلائل عقلية كثيرة تبيِّن ما يتعلق بربوبية الله، واستحقاقه للعبادة، وما إلى ذلك.

وأُبْطِلتْ في القرآن الطرق الباطلة في عبودية غير الله سبحانه بالعقل أيضاً، كقول الله تعالى عن أصحاب العجل: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف:١٤٨] فهذه المقدمة من الآية خبر، ثم جاء الإبطال لهذه الآلهة في قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف:١٤٨] وهذا إخبار عقلي، أي: مخطابة للعقل، بمعنى: أنه يمتنع أن يكون إلهاً مستحقاً للعبادة وهو لا يتكلم.

ولذلك فإن أهل السنة والجماعة لما أثبتوا صفة الكلام قالوا: دل عليها الشرع والعقل، أما دلالة الشرع: فلأن الله ذكر في كتابه أنه متكلم وأنه يتكلم: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:١٤٣] وهذا نص خبري، وأما دلالة العقل فقول الله تعالى عن أصحاب العجل: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف:١٤٨] فهذا يدل على أن الإله الحق يتصف بصفة الكلام؛ لأن الله تعالى قال عن العجل ولمن اتخذه إلهاً معبوداً: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف:١٤٨] فدل على أن الإله الحق لا بد أن يكون متصفاً بصفة الكلام.

فالقرآن الكريم تضمن دلائل عقلية كثيرة، وهي براهين قاطعة على صحة الربوبية والألوهية، ونبوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

<<  <  ج: ص:  >  >>