للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[إضافة الاستواء إلى الله تعالى يدل على أنه منزه عن مشابهة المخلوقين]

قال المصنف رحمه الله: [وكان هذا الخطأ من خطئه في مفهوم استوائه على العرش، حيث ظن أنه مثل استواء الإنسان على ظهور الأنعام والفلك، وليس في اللفظ ما يدل على ذلك؛ لأنه أضاف الاستواء إلى نفسه الكريمة، كما أضاف إليها سائر أفعاله وصفاته، فذكر أنه خلق ثم استوى، كما ذكر أنه قدر فهدى، وأنه بنى السماء بأيد، وكما ذكر أنه مع موسى وهارون يسمع ويرى، وأمثال ذلك، فلم يذكر استواءً مطلقاً يصلح للمخلوق، ولا عاماً يتناول المخلوق، كما لم يذكر مثل ذلك في سائر صفاته، وإنما ذكر استواء أضافه إلى نفسه الكريمة].

قوله: (وليس في اللفظ ما يدل على ذلك):

ولهذا فإن تنزيه الله سبحانه وتعالى عن هذا التوهم يعلم بقول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] ويعلم بقول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] فكما أن تنزيه الله عن مشابهة الخلق في استوائه يعلم بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] فهو يعلم بقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] لأن الاستواء هنا أضيف إلى الله، فعلم اختصاصه به عن غيره.

وقوله: (فلم يذكر استواءً مطلقاً يصلح للمخلوق، ولا عاماً يتناول المخلوق):

بل ذكر استواءً خاصاً، وهو استواؤه على العرش، وأضاف هذا الاستواء إلى نفسه سبحانه وتعالى فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] فكان هذا كلاماً مفصلاً مخصصاً، وليس كلاماً مجملاً مطلقاً.

قال المصنف رحمه الله: [فلو قدر -على وجه الفرض الممتنع- أنه هو مثل خلقه -تعالى الله عن ذلك- لكان استواؤه مثل استواء خلقه.

أما إذا كان هو ليس مماثلاً لخلقه؛ بل قد علم أنه الغني عن الخلق، وأنه الخالق للعرش ولغيره، وأن كل ما سواه مفتقر إليه، وهو الغني عن كل ما سواه، وهو لم يذكر إلا استواءً يخصه، لم يذكر استواءً يتناول غيره، ولا يصلح له، كما لم يذكر في علمه وقدرته ورؤيته وسمعه وخلقه إلا ما يختص به، فكيف يجوز أن يتوهم أنه إذا كان مستوياً على العرش كان محتاجاً إليه، وأنه لو سقط العرش لخر من عليه؟! سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً!].

وهذا كلام بين من جهة العقل والشرع، فإن المصنف يقول: لو قدر أنه هو سبحانه وتعالى مماثل لخلقه، فأمكن إيراد مثل هذه الأوجه من الإشكال، من جهة احتياجه إلى العرش، أو نحو ذلك من اللوازم الباطلة ..

لكن من المعلوم عند سائر المسلمين؛ بل وعامة بني آدم، أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، ولا أحد يقر بربوبية الله -حتى ولو كان مشركاً في ألوهيته- إلا ويشهد أن الله سبحانه وتعالى مختص عن خلقه، فإذا كان هذا معروفاً حتى عند جمهور وعامة المشركين؛ فضلاً عن المسلمين وأتباع المرسلين، فإنه لا يمكن أن يتوهم في صفة من الصفات مثل هذا الإيراد.

ومن طرق المصنف رحمه الله في رسالته -وهي من الطرق الشرعية العقلية الفاضلة، وقد سبق الإشارة إليها-: أنه يبني القول الحق على قواعد منضبطة بضرورة العقل أو ضرورة الشرع، كما أنه يجعل الأقوال المخالفة التي خالف أصحابها قول الأئمة أو إجماع الصحابة، يجعل هذه الأقوال مستلزمة لمخالفة القواعد الضرورية من الشرع أو من العقل، فالمصنف يرد كثيراً إلى أصول مستقرة، فيجعل الحق الذي ذكره مناسباً لهذه الأصول، ويجعل القول الذي أراد إبطاله مفارقاً ومنافياً لهذه الأصول.

وهذا المنهج أجود في المناظرة والمجادلة من الرد إلى أصول أو كلمات أو أدلة يرد عليها التوهم، أو الظن، أو الاشتباه، أو المنازعة، أو ما إلى ذلك، وهذا من فقه المصنف رحمه الله، وهي طريقة معروفة في القرآن، ومن أمثلتها: ما ذكره الله سبحانه وتعالى في قصة إبراهيم مع قومه، وفي قصته مع الرجل الكافر الذي ناظره لما قال إبراهيم: {رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ} [البقرة:٢٥٨].

إذاً: الحق يتسلسل، والحق المفصل يرجع إلى حق كلي مجمل، ويكون تفصيل هذا المجمل بهذا المفصل، وربما صار بعض التفصيل محل اجتهاد في جمل الاستدلال ونحو ذلك؛ فمثلاً: قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٢ - ٢٣] إذا نازع منازع في مسألة أن هذا دليل على الرؤية، فهل المخالف قد بنى سائر ما يقول على هذا الإشكال الذي ذكره؟ الجواب: لا.

إذاً: الرد إلى الأصول المتفق عليها من حسن المناظرات، وهذا الأمر معروف في المناظرات عند عامة الأمم, أنه إذا كان المعنى الذي تذكره حقاً؛ فإنه يلزم عقلاً وشرعاً أن يكون مناسباً للأصول المستقرة في العقل والشرع عند جميع المسلمين.

مثلاً: من الأصول المستقرة عند جميع المسلمين أن الله مستحق للكمال منزه عن النقص؛ ولذلك ذكر المصنف أن هذه الصفات من حيث هي صفات كمال، كما أنه من المعلوم بالضرورة أن كل معنى باطل يلزم أن يكون منافياً للأصول المعلومة الصحة بالعقل والشرع, فيرد المشتبه أو المشكل أو المختلف فيه إلى الحكم المستقر المؤتلف في شأنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>