للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[فساد قول المتكلمين بالتعارض بين العقل والنقل]

قال المصنف رحمه الله: [وكثير من أهل الكلام يسمي هذه (الأصول العقلية)؛ لاعتقاده أنها لا تعلم إلا بالعقل فقط، فإن السمع هو مجرد إخبار الصادق، وخبر الصادق -الذي هو النبي- لا يعلم صدقه إلا بعد العلم بهذه الأصول بالعقل].

قوله: (فإن السمع هو مجرد إخبار الصادق):

هذا هو كلام المخالف، فإن هؤلاء -وهم غلاة المتكلمين- يجعلون النصوص القرآنية لم تنطق بالأحكام العقلية؛ بل السمع عندهم مجرد الإخبار المبني على صدق المخبر, وهذا عدم فقه للقرآن, فإن من قرأ القرآن بان له أن فيه حكماً عقلياً، وهي الأمثال المضروبة التي ضربها الله تعالى في كتابه، كقوله سبحانه وتعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [الروم:٢٨] وكقول الله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:٧٨] أو يأتي على سياق ليس فيه ذكر للمثل؛ كقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:٩١] إلى غير ذلك من الآيات، فهذه الطريقة هي الطريقة التي عليها جمهور المسلمين، وفضلاء المتكلمين والنظار، خلافاً لغلاتهم الذين قالوا: إن القرآن لم يأت بالأحكام العقلية.

ولذلك إذا بان هذا الأمر؛ بانت نتيجة مهمة في الأصول، وهي: أن الدليل النقلي في الكتاب والسنة -أي: الدليل السمعي- لا يقابله الدليل العقلي، فإن الدليل السمعي هو الدليل الشرعي، وما يقابله هو ما ليس شرعياً؛ سواء سمي بدعياً، أو قيل: هو ما لم يأت ذكره في السمع، وليس هو العقلي؛ لأنه إذا قيل: إن الدليل السمعي يقابله العقلي، فيلزم كضرورة عقلية وكبدهيات أساسية أن يكون النقل مجرداً عن الحكم العقلي.

وهذا التناقض هو الذي وقع فيه غلاة المتكلمين، وجاء في كلامهم، حتى فرضوا ما يسمى بقانون تعارض العقل والنقل، وإن كان هذا القانون قد دخل على بعض فضلاء النظار، الذين لا يلتزمون بمثل هذه الحقائق على التحقيق.

فيقول غلاة المتكلمين: إن التعارض إذا وقع بين السمعي والعقلي، فإما أن يعمل بهما جميعاً, وإما أن يرفعا جميعاً، والعمل بهما جميعاً ورفعهما جميعاً كلاهما ممتنع؛ لأن الجمع لهما جمع للنقيضين، والرفع لهما رفع للنقيضين.

قالوا: فلم يبق إلا أن يقدم الدليل السمعي على الدليل العقلي، أو يقدم الدليل العقلي على الدليل السمعي، وتقديم الدليل السمعي على العقلي ممتنع؛ لأن الدليل على صدق السمع هو العقل.

فإن قيل لهم: كيف ذلك؟ قالوا: إن السمع إنما جاء عن الأنبياء والرسل، والدليل على صدق الرسول هو معجزته, ومعجزته حكم عليها بكونها معجزة بحكم العقل، فإذا قدمنا الدليل السمعي على العقلي؛ لزم الشك في الدليل العقلي المصدق للمعجزات، فيلزم على هذا الإسقاط للسمع والعقل.

وهذا كله سفسطة, وتناقض في الكلام العقلي؛ والجواب عن ذلك من وجهين:

الوجه الأول: أن القول بأن ثمة تعارضاً بين العقل والنقل خطأ من جهة العقل نفسه؛ لأنه يلزم -كضرورة أولية- أن تكون الدلائل السمعية مجردة من العقل.

الوجه الثاني: لو فرض أن ثمة تعارضاً بين العقلي والسمعي، فإن ما كان عقلياً امتنع أن يكون معارضاً للسمع، إلا أن يكون عقلاً فاسداً, وما كان فاسداً امتنع أن يكون معارضاً للصواب، فإن السمع كله صادق، فما كان صادقاً امتنع أن يعارضه صادق؛ لأنه يلزم أن يكون بين الصادقين تمانع، ومعلوم أن الصادقين لا يمكن أن يكونا متناقضين أبداً، فعلم بذلك أن السمع لا يعارضه بنفس الأمر إلا عقلي ليس صادقاً؛ لأن العقلي إما أن يكون صادقاً، وإما أن يكون كاذباً.

فإن كان كاذباً وقد عارض سمعياً صادقاً، فإن القاعدة: أن الصادق إذا عارضه كاذب قدم الصادق.

فإن قالوا: إن الدليل العقلي لا ينقسم إلى صادق وكاذب؛ بل إن العقل كله صادق.

فيقال: إن العقل إما أن يكون صادقاً، وإما أن يكون كاذباً، وإما أن يكون بعضه صادقاً وبعضه كاذباً، ومنازعتهم مبنية على كل واحد من هذه الأوجه الثلاثة، فإن قالوا: إن العقل كله صادق؛ لزم من ذلك امتناع التعارض؛ لأنه يمتنع أن يتعارض الصادقان، وإن قالوا: إن العقل جميعه كاذب؛ لزم من ذلك إبطال العقل وتعظيم السمع، وإن قالوا: إن العقل منه ما هو صادق، ومنه ما هو كاذب، قيل: ما كان كاذباً من العقل فإنه يرد، وما كان صادقاً منه فإنه يمتنع أن يعارض السمع.

وهناك أوجه كثير في مسألة درء تعارض العقل والنقل، وأن الشريعة لا يمكن أن تعارض حكماً من أحكام العقل الصحيح، وأما العقل الفاسد فإنه متسلسل عند بني آدم، وهو من الأحكام الفاسدة، وهو الظن، ولذلك فإن ما يذكره الكفار على سبيل القضاء في الحكم العقلي، سماه الله في القرآن بالظن فقال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} [النجم:٢٣] ففي باب الحكم العقلي نجد أن حجتهم حجة ظنية، وفي موارد الإرادات والأحوال والسلوكيات وما إلى ذلك نجد أن موجب القبول عندهم وعدم القبول هو هوى النفس؛ بخلاف أهل الإيمان، فإنهم في باب الإرادات والأحوال والسلوكيات لا يكون المحرك لهم هو هوى النفس، وفي باب العقليات لا يكون المحرك لهم هو الظن، وإنما العلم اليقيني.

<<  <  ج: ص:  >  >>